محمد الفاتح؛ سلطان تشرف بتحقيق بشارة النبي ﷺ

 عموما، عندما نتعارف مع تاريخ الدولات الإسلامية، يتبادر إلى أذهاننا بعض الحكام من تلك الدولات؛ وهم محبوبون لدى أغلب المسلمين في كل عصر من العصور وفي كل بلد من البلدان، ولهم مساهمات عديدة قدموها طوال حياتهم في مختلف المجالات، فنجحوا شهرة واسعة وخالدة إلى الأبد. ومن هؤلاء الأمراء على سبيل المثال، خليفة عمر بن عبد العزيز في الدولة الأموية، وهارون الرشيد في الدولة العباسية، وملك ألب أرسلان في السلجوقية، والقائد العظيم صلاح الدين الأيوبي في الدولة الأيوبية، وسلطانان محمد الفاتح وسليمان القانوني في الدولة العثمانية. فأما هنا فإلينا التعارف مع السلطان العثماني محمد الفاتح (محمد الثاني بن مراد الثاني)..

 وهو السلطان محمد الفاتح، السلطان السابع في سلسلة سلاطين الدولة العثمانية، ذاع صيته وعلا مجده في صفحات التاريخ الديني والسياسي، وذكراه خالدة وراسخة في قلوب المؤمنين من كل أصقاع العالم. وله الفضل المحور في فتح باب جديد إلى تاريخ أوربا والعالم بأكمله؛ فكان على يده تجمد مقر الإمبراطورية البيزنطية وانتهاء سيرة سلاسل أباطرتها. واختار مدينة قسطنطينية- عاصمة البيزنطية آنذاك- حاضرة لدولته لتصبح عاصمة العالم¹. ووطد سيادة الدولة العثمانية في بلاد آسيا وأوربا حتى بلغت فتوحاته إلى إيطاليا.

 وهذا السلطان فلنعم الأمير هو؛ هابه أعداء الإسلام وخاف من بطشه الصليبيون الذين كانوا بينهم حلفاء ضد الإسلام، وطامعين أيضاً تشتيت شمل المسلمين وإبادة أمتنا المسلمة من وجه الأرض. وفي الوقت نفسه أحبه المسلمون والمستضعفون، كما أحبوا أجداده، كثيرا، ومنهم من التجأ إلى كنفه أفواجا حتى من الملوك والمساكين على السواء. فأما السلطان فإنه كان شديداً على أناس معتدين وملوك جبارين كما أنه كان رحيما بين أمة محمد ﷺ ، والضعفاء والبؤساء الذين يعانون ألوان الصعوبات في بلادهم ودياهم تحت حكامهم المتكبرين. 

 وهو السلطان الذي تفتخر به الأمة الحنيفة للغاية، ويمكن عده ممن قام بإعادة ازدهار الأمة وإحياءها من جديد بعد سقوط مدينة السلام -بغداد- على يد هولاكو خان -حفيد جنكيز خان- وبينما تضاعف أخطار أعداء المسلمين ضد الإسلام بالأندلس بشكل مرعب محزن، حيث كانت آخر إمرة مسلمة على وشك السقوط. وهذه الأمور من السلطان، كسلاطين آخرين أمثاله، تجعله ممن أسفروا عن صب الهيبة والوقار للإسلام وللمسلمين في قلوب ملوك أوربا مزيدا.

وهو الذي اختاره الله سبحانه أميرا تم به تحقيق بشارة نبيه ﷺ بفتح المسلمين مدينة هرقل-قسطنطينية الشهيرة، فبه أنجز الله تعالى جهود أسلافه الصالحين العظماء وأكمل به جهود هؤلاء المخلصين لتتحقق أحلامهم حتى بعد موتهم. ومن تلك المجموعة السابقة صحابة رسولنا ﷺ الذين تزودوا بالإيمان والشجاعة لهذه الجهود، كصحابي عظيم أبي أيوب الأنصاري وكان، آنذاك، كبر في السن حتى كان شيخا هرما ربما لا يمكنه من سفر طويل، إلا أنه توجه إلى ميدان الحرب لكي يشهد بشارة الحبيب ﷺ حيث رحل إلى الأرض المبشرة ليهب الله له الاستشهاد فيها. ولم يوفق الله لهم عندئذ فتح للقسطنطينية. 

 ولم تنته هذه الجهود والجد عن ذلك بل تعاقبهم من هم اتبعوا طريقهم. وكانت تلك المحاولات في عهود الخلفاء والسلاطين الأخيار وهم: خليفة عثمان بن عفان، والأمويان معاوية بن أبو سفيان وسليمان بن عبد الملك، والعباسيان المهدي وهارون الرشيد حتى إلى ملك ألب أرسلان السلجوقي، وبايزيد العثماني ثم محمد الثاني-رحمهم الله جميعا. 

وقد كان السلطان يتحرك لسانه، ويتذكر دائما، بحديث النبي-صلى الله عليه وسلم -الشريف الذي شجعه به معلمه المثالي "آق شمس الدين"- يعرف هذا العالم بأنه هو فاتح معنوي للقسطنطينية-على تحقيق بشارة النبي ﷺ منذ أيام دراسته حتى إلى أن يقوم السلطان نفسه بالخطبة المشجعة أمام جيشه العظيمة بهذا الحديث. وكان جيشه لا يأخذهم حب الدنيا وحلاوتها وزخرفاتها بل ألزموا قلب المعارك في البر والبحر، وما خافوا في سبيل الله إلا ملك يوم الدين، وقدموا نفوسهم لتكون فداء سيطير في جنات العيون(الله جعلنا وجعلهم أهلها-آمين)، وكان السلطان يسود هذا الجيش بنفسه، فلنعم الجيش هذا الجيش..!

 فهذه كانت محاولة متحدة جمعية على سيطرة المدينة التي يصفها التاريخ بأنها صعب المنال بالنسبة للغرباء عنها والتي أيضا حالت دون أسلاف محمد الثاني وأجداده لفتحها بخصائص طبيعتها الجغرافية، وبأسوارها الضخمة وسلاسلها القوية. 

 لماذا يحاول الصحابة ومن تبعهم للحصول على هذه المدينة، وذلك حديث نبوي يبشر به الرسول-صلى الله عليه وسلم-الجميع في أمته، وهو لا يخفى أيضاً علينا نحن المسلمين: «لتُفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش»

ولد السلطان محمد الثاني بن مراد الثاني بمدينة أدرنة التركية، التي كانت عاصمة الدولة آنذاك إلى أن يحول السلطان نفسه حاضرة حكمه إلى مدينة قسطنطينية-إسطنبول. وكانت ولادته سنة 833هـ الموافقة لسنة 1429م. وفي أدرنة قضى طفولته، حيث ترعرع السلطان تحت تربية كبار العلماء والفقهاء، وتلقى على أيديهم العلوم الدينية والدنيوية، إضافة اللغات العديدة وعلوم تاريخ الأسلاف. وعلاوة على ذلك أجاد السلطان الفاتح الصغير ركوب الخيل والرمي بالقوس والضرب بالسيوف.

وقد جلس السلطان محمد الثاني على عرش الدولة العثمانية مرتين. المرة الأولى حين تنازل له والده عن العرش وهو لم يبلغ من عمره ١٤عاما، وكان ذلك بعد اختيار والده مراد الثاني أن يخلد الراحة من حياته. غير أن هذه الفترة لم تطل زمنا طويلا أن استغل أعداء الدولة هذه الفرصة للهجوم على الدولة وللاستفادة منها. فما لبث مراد الثاني أن رجع إلى ابنه ليتولى الحكم. والثانية تولى الحكم وعمره ٢٢عاما، بعد وفاة والده، وكان ذلك عام ٧٥٥ھ.

وما كاد السلطان أن يتولى الحكم حتى عزم على القضاء على الإمبراطورية البيزنطية التي ما زالت تهددت الإسلام في قارة أوربا، فأعد جيشا قويا في البر والبحر وجمع العدة والعضد من داخل الدولة وخارجها، وجالس مع العلماء والعظماء يشاورهم في ذلك، ثم مهد الطريق إلى هدفه؛ حيث أزال التحديات والأزمات التي تحول دونه، ليتسهل سيره إلى ما قصد به.

وكانت نتيجة هذه الجهود أن عجز الإمبراطور ومن معه كاملا عن الدفاع عن نفوسهم وعن بلادهم. وذلك بعد حصار مستمر وجهود جريئة من قبل جيش العثمانيين. ولعبت حكمة السلطان وعزمه دورا مهما في فتحها، كما حفز العلماء السلطان وجيشه بالمواعظ وبدعائهم إلى الله سبحانه بالإعطاء من قبله النصر والعون. 

 وفي نهاية الأمر لم تستطع المدينة أن تصمد أمام عزيمة المسلمين، فدخل السلطان ومن معه القسطنطينية منتصرين، في فجر يوم ١٥ من جمادى الأولى عام ٨٥٧ه‍ الموافق 1453م. وكان أرحم بأهل القسطنطينية وأرفق بهم، وعفا لهم ما عفا.

وحكم السلطان ما يقارب من ثلاثين عاما، وترك ورائه مساهمات عديدة في مختلف المجالات من أعماله الحضارية وما إلى ذلك. وله فتوحات كثيرة حيوية بالإضافة إلى فتح القسطنطينية. ولقبه الناس بالفاتح وأبي الخيرات. 

 فأما سيرته فطويلة من حيث لا تسع مقالة أو مقالتان تناول كل أطرافها وجوانبها، ففي حياته وقائع تاريخية مزيدة ونبذات متنوعة من خدماته.توفي السلطان عام ٨٨٦ه‍ الموافق لعام 1481م- رحمه الله.

       _____________________

المراد بعاصمة العالم هي مدينة إسطنبول، وذلك بحسب ما وصفها القائد الفرنسي نابليون بونابرت : لو كان العالم كله دولة واحدة لكانت إسطنبول عاصمتها".

___________________________________________________________________________________________________________________

                  المراجع 

الموسوعة المسيرة في التاريخ الإسلامي (١)- د. راغب السرجاني.

الدولة العثمانية – علي محمد محمد الصلابي.

السلطان محمد الفاتح – موسوعة الجزيرة نت.


بقلم محمد شريف
 

إرسال تعليق

أحدث أقدم