رحل الداعية والمفكر التركي فتح الله غولن، أحد أشهر العلماء المصلحين وأبرز المفكرين المعاصرين، تاركا خلفه إرثا فكريا غزيرا في مجالات الإصلاح والتعايش والسلام، وأيديولوجيات مبنية على مبادئ التسامح.
قدم نموذجا مثاليا لحياة قائمة على السنن النبوية، كما كرس حياته على بناء جيل مثقف، ليصبح رمزا للدعوة إلى الإصلاح من خلال التربية والتعليم والتسامح والحوار بين الأديان، لاعبا دورا رياديا في نشر التعليم والقيم الأخلاقية الإسلامية في أصقاع المعمورة بواسطة مجهوداته الجبارة التي تتمثل في خطبه ومؤلفاته ومشروعاته المرموقة.
التربية الحسنة والتكوين الفكري
ولد الأستاذ في نوفمبر 11 عام 1938 في قرية كوروجوك بمحافظة أَرْضرُوم بتركيا في أسرة متدينة، بدأ مشواره التعليمي بحفظ القرآن الكريم على يد والدته "رفِيعة هانم" في سنه العاشر، واطلع على علوم القرآن واكتسب مهارة الخطابة كما أتقن اللغتين العربية والفارسية بفضل والده رامز أفندي، وكان بيت والده محطّ العلماء والصالحين المعروفين في البلدة، ما تسنّى له مجالسة الكبار والاستماع إلى أحاديثهم، حتى تفتّح وعيه، وتعمقت معارفه في باكورة حياته.
تبحر في دراسة العلوم الشرعية مثل علوم الفقه والتفسير والحديث والنحو والبلاغة والأصول ومقارنة الأديان، كما ركز على الفكر الإسلامي المعاصر، وأمعن في قراءة منظّري الإصلاح والتيارات التي ظهرت في شتى البلدان الإسلامية في القرون الأخيرة والنظريات الغربية في الفلسفة والسياسة والأدب الحديث، مما ساعده في بناء قاعدة فكرية واسعة لأجل إطلاق دعوة إصلاحية شاملة.
مسيرة الدعوة وتوعية المجتمع
بدأ مشوار الدعوة كإمام في جامع أُوج شرفلِي في مدينة أدِرْنة وهو في عشرينيات عمره، حيث قضى فيها مدّة عامين ونصف في الزهد ورياضة النفس والمطالعة العلمية في كافة العلوم الشرعية والكونية والأدبية والفلسفية، ثم انتقل إلى مدينة إِزْمِير عام 1966، حيث تأثر بخطبه الآلاف.
هذا كان بداية مرحلة جديدة لمسيرته الفكرية والدعوية، فطفق يجوب أنحاء تركيا، متنقلا بين مدنها وأريافها من شرقها إلى غربها متحدثا عن مشاكل الأمة والإنسانية وحلولها، وعن المسؤوليات التي يضطلع بها كل فرد، واشتهر بلقب الإمام البكّاء لفيضان عواطفه المخلصة أثناء الخطب والمواعظ، حتى استطاع أن يمس قلوب الملايين من الأتراك من خلال دعوته التي استمرت لعقود.
المبادئ الفكرية لبناء المجتمع المثالي
وبعد بحث عميق قام بتشخيص العلل التي تنخر الأمة من داخلها وأدرك أن السبيل الأوحد والأنجع لإصلاح المجتمع وتنشئة أجيال مثقفة ناجحة وتكوين النماذج البشرية على أرض الواقع هو التربية والتعليم، وكان يقول باكيا: إن العالم في أمسّ الحاجة إلى الإسلام اليوم، والإسلام في أمس الحاجة إلى من يمثّله بحقّ، فحث الناس على رعاية الطلبة كنوع من الصدقة، ليقبل الناس على هذه النصيحة إقبالا عظيما، وأدى إلى فتح عشرات الآلاف من بيوت الطلبة وآلاف المدارس والعديد من الجامعات والمكتبات العامة المجانية ومراكز دروس تقوية لغير القادرين ومعاهد تحضيرية للجامعات وذلك في تركيا فقط، وأضعاف هذا الأرقام في 170 دولة على الصعيد العالمي.
وكان يؤكد بأن التعايش السلمي بين الأمم والأديان ضرورية في هذا العصر الراهن، وفي هذا الإطار التقى بالبابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان عام 1998، في خطوة تعد نقطة فاصلة في هذا الصدد، وفي بداية التسعينيات ركز على إنشاء مؤسسة عالمية لغرض التحاور والتفاهم والاحترام المتبادل بين أصحاب التيارات والأفكار المتباينة، لتقريب وجهات النظر، وإقصاء التفرق والعنف، فنجحت في تحقيق أهدافها المنشودة لتنبثق إثرها منتديات ومؤتمرات للحوار البيني والعالمي، مما شكل منعطفا تاريخيا في تأسيس السلام والتعايش بين الأطياف المتناقضة.
علاوة على ذلك شدد على أن مسؤولية المسلم مسؤولية كونية، وأن صلاح العالم بصلاح الفرد، وأن التغيير يبدأ من الإنسان، وتغيير الإنسان بمثابة تغيير الدنيا كلها، فانطلاقا من هذا الإطار ألقى الأستاذ آلاف المحاضرات العلمية والدينية والاجتماعية والفلسفية والفكرية كما عقد آلافا من اللقاءات وحلقات الدرس الخاصة التي أزال من خلالها الشكوك العالقة في أذهان الناس، حتى أحدث تأثيرا ملموسا في المجتمع التركي.
حركة الخدمة: مبادرة متكاملة لخدمة الإنسانية
تبنى الأستاذ غولن فكرة مبنية على التفاهم والسلم وفلسفة تعليمية قائمة على القيم الإسلامية، ومن هنا انطلق في مسيرته لنشر هذه المبادئ عن طريق تأسيس حركة الخدمة، والتي هي مبادرة مجتمعية تنشط في مجالات التعليم والعمل الخيري والحوار بين الأديان للنهوض بالأمة الإسلامية حينما أدرك أن المجتمع التركي ومجتمعات العالم الإسلامي بشكل عام تعاني من ثلاث علل كبرى وهي: الجهل، والفقر، والتفرق، فنذر نفسه للدعوة إلى مناهضتها بحث الأثرياء ورجال الأعمال على الاستثمار في مجال التعليم، وتأسيس مؤسسات تعليمية تسهم في توعية الشباب وتأسيس المنظمات غير الربحية لدعم الفقراء، كما اعتمد على الحوار الديني والثقافي بغية تقوية النسيج الاجتماعي، عبر إنشاء عدد من مراكز الحوار بين الأديان في مناطق متعددة.
فنتيجة لمساعيهم الحثيثة نجحوا في إطلاق حوالي 1300 مدرسة، وعدد من الجامعات، ومئات المدن الجامعية، وبيوت الطلبة القائمة على تعزيز جودة التعليم ورفع مستوى الأخلاق، بالإضافة إلى إطلاق وسائل إعلامية بعدة لغات مثل الصحف والمجلات والمحطات الإذاعية والفضائيات بجانب مؤسسات طبية وعدد من دور النشر في تركيا وخارجها، وجمعيات ومنتديات لرجال الأعمال والتجار لتشكل منظومة شاملة تروم التنمية في جميع الأبعاد.
تأثرا بمصداقية مشاعره تجاه قضايا الأمة، حمل أتباعه أعباء نشر رسالاته النفيسة على أكتافهم وانتشروا في أكثر من 170 دولة، ممثلين أفكارا إسلامية منفتحة ومتسامحة، وقاموا بفتح عدد من المؤسسات التعليمية لا سيما في دول آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي كما نظموا عددا من المؤتمرات التي جمعت علماء من مختلف بقاع العالم الإسلامي من أجل مناقشة قضايا الأمة والتقريب بين علمائها ودعاتها، وبالإضافة إلى ذلك فتحوا قنوات الحوار بين الأديان حتى أحرزت الحركة تقدما ملحوظا في مجال التربية والتعليم وتوسع نطاقها لتشمل إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا وغيرها في أنحاء العالم.
الانقلاب الفاشل: بين التهم والحقائق
في عام 2016، اتهمت الحكومة التركية الأستاذ بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، ورغم إدانته بالجريمة ودعوته لفتح تحقيق دولي شامل محايد، استمرت الاتهامات بحقه وحمّلت السلطات المسؤولية الكاملة على عاتقه، رغم أنه كان يقيم في الولايات المتحدة منذ عام 1999، الأمر الذي يستبعد احتمالية تورطه فيها، وحينما لم تستطع السلطات إثبات مزاعمها ضده رفضت الولايات المتحدة طلب تسليمه، حتى أن بعض المحللين يرون هذه المحاولة عبارة عن وسيلة لتصفية المعارضة وتعزيز سلطة الحكومة، ومن جهة أخرى تُعرف الحركة بمبادئها السلمية، ورفضها للعنف كوسيلة للتغيير، مما يجعل اتهامه بتدبير الانقلاب مناقضا لأسس وتعاليم حركته، علاوة على ذلك، كان يعارض بشدة تحويل الدين إلى أيديولوجيا سياسية أو أداة صراع.
ومن اللافت للانتباه أن الأستاذ هو نفسه صرح في عام 1994 بأنه لا بديل عن الديموقراطية سواء في تركيا أو في بقية دول العالم، كما نشر في جريدة واشنطن بوست بعد أحداث 11 سبتمبر مباشرة: المسلم الحقيقي لا يمكن أن يكون إرهابيا والإرهابي لا يمكن أن يكون مسلما حقيقيا.
تعرضت حركة الخدمة لحملات قمعية أدت إلى اعتقال الآلاف من مؤيديها ومناصريها، ومصادرة ممتلكاتها بما فيها المدارس والمستشفيات، وإغلاق المؤسسات التعليمية التابعة لها، مما أدى إلى تراجع تأثيرها في المجتمع التركي، فيما استمرت الحكومة التركية بممارسة الضغط على الدول الأخرى لإغلاق مؤسساتها على الصعيد الدولي، حتى اضطرت حركة الخدمة إلى إعادة توجيه أنشطتها نحو الخارج، مركّزة على توسعة نطاقها الدولي خاصة في أوروبا وأمريكا وآسيا، حيث لاقت استحسانا دوليا وتقبلا واسعا.
الجوائز الدولية والتكريمات العالمية
لقد لفت الأستاذ غولن أنظار العالم بمجهوداته الحثيثة في نشر السلام والتسامح، فنال عدة جوائز وتكريمات دولية تثمينا لإسهاماته القيمة وتقديرا لمجهوداته المتميزة، حيث احتل المرتبة الأولى في قائمة أهم مائة عالم عام 2008م في استطلاع أجرتها مجلة فورين بوليسي الأمريكية ومجلة بروسبيكت البريطانية، كما وضعته مجلة تايم الأمريكية ضمن قائمة المائة الأكثر تأثيرا في العالم، فضلا عن حيازته العديد من الجوائز التكريمية مثل جائزة مانهاي للسلام من كوريا الجنوبية سنة 2013م، وجائزة غاندي للسلام في عام 2015م، إضافة إلى جائزة السلام من معهد إيست وست في نيويورك.
إرثه الأدبي والفكري والتربوي
خلف الأستاذ وراءه إرثا غنيا أثرى المجالات الفكرية والتربوية والدعوية الإسلامية، فأغلب إنتاجاته الأدبية يدور حول التصوف والتدين، والتحديات المعاصرة في وجه الإسلام، ولقد ألف ما يقرب من سبعين كتابا، ومن أبرز أعماله كتابه "النور الخالد" والذي يعالج فيه السيرة النبوية كدراسة علمية، وكتابه البيان، والتلال الزمردية، ونحن نقيم صرح الروح، وأسئلة العصر المحيِّرة، وجيل الحداثة، ونحن نبني حضارتنا وغيرها من الكتب التي تتناول قضايا الفكر الإسلامي المعاصر وأهمية الأخلاق والقيم في تعزيز الفهم الإسلامي الصحيح.
ومن الجدير بالذكر أن بعض كتبه مترجم من التركية إلى نحو 40 لغة أخرى مثل العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والإسبانية وغيرها من اللغات العالمية، وله آلاف الخطب والمحاضرات والمواعظ المسجّلة، إضافة إلى مئات المقالات المنشورة في المجلات والصحف.
نسيم الهدوي
المحاضر، معهد ابن خلدون الإسلامي، بشكيك، قيرغيزستان
حركة الخدمة بحاجة لأمثالك... لبناء المجتمع المثالي
ردحذف"والإسلام في أمس الحاجة إلى من يمثّله بحقّ.... 💌👍