لقد كان في رسول الله أسوة حسنة


ها هو خاتم النبيين، هو رجل أمين وأب حنون، ولد مطيع وقائد شجاع،تاجر صدوق وشاب متبوع،زوج حبيب وجد ودود، وهذا النبي قد شمل وجمل جميع نواحي الكمال. يؤكده المتعال في كتابه الجليل حينما قال:  زكاه في عقله فقال جل وعلا: (ما ضل صاحبكم وما غوى ) (النجم) وزكاه في بصره فقال جل وعلا: (ما زاغ البصر وما طغى) (النجم:17)وزكاه في صدره فقال جل وعلا: ( ألم نشرح لك صدرك ؟). (الشرح:1)
 وزكاه في ذكره فقال جل وعلا: (رفعنا لك ذكرك ). (الشرح:4)
وزكاه في طهره فقال جل وعلا: ( ووضعنا عنك وزرك ). (الشرح:2)
 وزكاه في صدقه فقال جل وعلا: ( وما ينطق عن الهوى ؟)
(النجم:3)
 وزكاه في علمه فقال جل وعلا: (علمه شديد القوى ؟) (النجم:5)
وزكاه في حلمه فقال جل وعلا: ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (التوبة:128)
 وزكاه في خلقه كله فقال جل وعلا: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم:4)

 وقد مضت في العالم العديد من العباقرة والأكارم، والسادة والأفاضل،ولكن لم ينقش في سجل التاريخ أحد مثل النبي الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وقد سجل جميع حركاته وسكناته ،كيف لا  ، من أن الله سبحانه و تعالى أشار إليه بالشهادة: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. فلنخض إلى بعض أسوته الجلية ونواحى حياته المزدهرة. 

إنه رؤوف رحيم: 

 في الزمن الذي تكثر فيه العداوة والبغضاء، انتشرت فيه القتل والشنيعة ، ويتم فيه تبرير فيه الفوضى والتطرف. ينبغي على كل من له عقل سليم التحري عن حل هذه الأحوال. فلن نلحق إليه إلا بالاتفات إلى مجدد متبوع  عمل على انتشال الناس من وهدة الحضيض والتيه والامتهان إلى قمة الكرامة والعزة وإلى مسيرته المستقيمة التي لا يجود الزمان بمثلها. رجوعنا إليها يوصلنا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهض بالأمة من دركات السفالة وهوات الجهالة ومن أخاديد الخمول وأيقظ الشعب ودرأهم عن جيوش الخمول وكتائب الضعة برؤفته السامية التي دفع عنهم ما ينتاب بهم من الأمراض الاجتماعية وطوارئ الأسقام الزمنية وبرحمته السنية التي استحلت في سبيل الله المرائر وذللت العقبات الصعبة المرتقى،لا نكون مبالغين إذا قلنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه سيدا ورسولا وصل نظره وعنايته إلى جميع مراتب الشعب. يوماً حينما يمشي النبي صلى الله عليه وسلم  رأى أَمة صغيرة تبكي في الطريق. فسألها النبي عما أصابت فقالت: ضاعت الفلوس التي أعطاني سيدي ، فأعطاها النبي الفلوس التي فقدت. ولكن لم تتوقف من البكاء فقال النبي صلى الله عليه وسلم بم لم تترك البكاء فقالت تأخرت للرجوع فيعاتبني سيدي. فتبعها النبي صلى الله عليه وسلم رغما عن مهامه وأعماله. ولما رآه السيد أدهش وقال: لم أتيت يا نبي الله ؟ فبين النبي الحادث وقال: "لا تضربها هكذا".
 
 كان النبي محافظا على جميع آلام الشعب صغيرة كانت أو كبيرة. فلذلك أكد الله جل شأنه خلق النبي بقوله: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك" ،يقرره تسامح النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة حتى لقاتل أقرباءه المحبوبين ومؤذي أصحابه المقربين،بحيث أعلن الأمان لمن دخل بيت أبي سفيان. وقال: "اذهبوا أنتم الطلقاء. وأظهر لهم أنتم الأمناء". حتى غضب ومنع من قدم للقصاص واجترئ   للقتال.هكذا أخرج النبي صلى الله عليه وسلم الشعب من طبيعة البهيمية إلى بيئة الإنسانية.وجعلهم تتآزر ولا تتنافر، تتحالف ولا تتخالف.

وههنا قصة أعرابي آذى النبي صلى الله عليه وسلم: عن أنس بن مالك رضي الله عنه  قال: "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية"، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد؛ من شدة جبذته، ثم قال: یا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، "فالتفت إليه
رسول  الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء" لم يغضب النبي بل ضحك وتبسم. يا له من معاملة عجيبة! 

الرجل المتواضع

قال الشاعر:
جاءت له الدنيا فأعرض زاهدا
يبغي من الأخرى المكان الأرفعا 
من ألبس الدنيا السعادة حلة
فضفاضة لبس القميص مرقعا 
وهو الذي لو شاء نالت كفه
كل الذي فوق البسيطة أجمعا

 التاريخ مليئ بالمواقع التي تؤكد تواضع النبي صلى الله عليه وسلم.  قال عمر رضي الله عنه: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئا على وسادة من أدم حشوها ليف، قلت: يا رسول الله! ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم قد وسع عليهم، وهم لا يعبدون الله، فقال: "أو في هذا أنت يا ابن الخطاب! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا."
وليس تاريخ رجل عنا ببعيد، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: 
 "يا خيرنا، وابن خيرنا، ويا سيدنا وابن سيدنا"، فقال رسول الله صلی الله عليه وسلم: "عليكم بقولكم، ولا يستهويكم الشيطان، أنا محمد بن  عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلي الذي أنزلني الله ".ويوما  أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فكلمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال له: "هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد". فلما ناداه صحابي يا سيدي.. قال: "لست بسيد السيد الحقيقي هو الله وإنما أنا محمد يتيم". ويوماً خاصم صحابي مع يهودي في أمر هل حبيب الله محمد أم كليم الله موسى أفضل. وهذا وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كليم الله موسى أفضل مني لأنه لما أقوم بعد البعث سأرى موسى قائما ، مهما يك قد بعث أولا". وعلينا أن نتذكر أمرا ،بأن النبي كليم الله موسى عليه السلام كان سائلا لله جل وعلا أن يكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. 

القائد الشجاع: 
 مع تواضعه وعفوه كان شجاعا وقويا في إدارة الدولة وقيادتها. وقد شمل فيه جميع عناصر السيد وأخلاق القائد، من الشجاعة والأمانة والفطانة والمروءة والتواضع والتسامح ، وأقر قيادته كل من اطلع إلى حياته. وأثبت إمامته وجعله مثيلا كل من تعلم فن القيادة و أدهشوا للغاية حتى من ليسوا على دينه و نهجه ، كجون أرك أدير  وميكل أتش هارت. 
 
في الحقيقة الإنسان سيد وقائد في مجال شتى ، في المجتمع ، في الحزب ، في المدرسة ، وغيرها. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قائدا كاملا في هذه المجالات كلها. كما يعلم الجميع كان النبي قائدا شجاعا لدى الحروب والاضطرابات بحيث يذلل العقبات بجد جاد وعزم وقاد ونفوذ نظر حاد.يشجع الأصحاب ويسوقهم إلى الأمام قائلا لهم اذبحوا اليأس فقوّا البأس. ويكون معهم في كل حين و أوان ، يحثهم من كل حدب وصوب بصبر لا يضعف وإباء لا يتراجع. القائد الذي فيه يحي المجد الداثر ويقيل الشرف العاثر ولو بعد أن كانوا هباءا منثورا وطمرا محقورا وعضواً مستورا. مع هذه الشجاعة والقوة كان متواضعا مع أصحابه ورعيته،يشاور بمن معه ويقبل اقتراحاتهم القوية في دفع أذى الأعداء وصد غاراتهم ، يسمع ما فيهم من الطلب والمشكلات بحيث كان هو الحصن الحصين والمعقل الأمين ، ويرسم لهم الحل والفرج و يقودهم إلى منهج مستقيم لأنه كان محراب سعادتهم وأنسهم وكعبة آمالهم. ولنا أكبر مثال ودليل لوجوده مع الرعية و كونه معهم . عند عمارة المسجد النبوي هناك شيء أن نتذكر، أمر رسول الله صلى الله عليه وسل أن يبني مسجدا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه معهم بحيث يرغب المسلمين في العمل فيه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، فقال قائل من المسلمين:

 لئن قعدنا والنبي يعمل      ... لذاك منا العمل المضلل
 
الانسحاب لا مكانة له في منهجه من حيث أنه قائد و سيد. هكذا طابت سريرته وزكت سيرته.أمام حكمه وقضائه سي العالم والجاهل ، والغني والفقير ، الأسود والأبيض، العرب والعجم، المسلم وغير المسلم، الصغير والكبير. فكلهم لدى عدله في عبرة واحدة.

الزوج الكريم والأب الحنون:

 كما في النبي الكامل أسوة شاملة ،كان فيه خصائل زوج كريم وأب حليم. ولنطلع على زوجه الكريم مع أزواجه المطهرة. كانت فيهم الفتاة والعجوز ومن بينهم ولكن تعامل معهم حسب طبيعتهم وخلقهم. لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم من البيت قالت: كان يساعد في كل أعمال البيت في النظافة حتى في جمع الحطب ، وحلب اللبن وغيرها. ولم يشتم النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم في حياته قط . يوما أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت عائشة رضي الله عنها ومعه بعض من الحلويات التي أعطت زينب زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ولما رأت عائشة هذا عضبت وكسرت الإناء. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغضبها ولم يعاتب فعلها ولم يسب خلقها بل جلس وأخذ و جمع رويدا رويدا، ولما رأت عائشة هذا المنظر حزنت وبكت وعادت إلى النبي صلى الله عليه وسلم باكية و صلحت . وكذلك يسمع النبي مشكلاتهم وشكواهم تماما، يسافر ويلعب ويمازح ويسامر معهم مع كونه رئيسا للأمة وإماما للشعب.وهذا النبي هو الذي أعطى لهم مقاما ورتبة عالية في المجتمع حيث قال: "خيركم عند الله خيركم عند أصحابه"

 الأب والجد الحنون ليس عنا ببعيد . أولاده وأسباطه كانوا معه دواما لأن النبي يلعب معهم كأنه صغير. وكانوا يلعبون معه حتى في جسده. في يوم من الأيام كانت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة،  بعد ذهاب النبي إلى السجود لا يعود لفترة طويل ، بعد إتمام الصلاة سألوا عنه فقال: كان على كتفي حسن وحسين فخفت أن يكون قيامي يؤذي لعبهم فأطلت السجود. هكذا كان حنونا ورحيما ، ففي الجملة كان يغشيهم ويحيطهم بالود و المحبة.

النبي المعلم:
 
 كان فضل بن عباس ردیف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، لم يغضب ولم يعاتب بل علمه إلى القلب . ويوما أتى إليه رجل اعتنق الإسلام آنفا وقال "يا رسول الله كل ما أمرت سأطيع وأنا مستعد له، إلا أمر المرأة فليس ذاك فى طاقتي لصبر، فاعف لي حكم المرأة وإذا رأيت امرأة تغلب شهوتي يا رسول الله". والرسول هو الذى قاس فى الأمر الذي سأله ذلك الرجل.ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ما شتمه وما سبه بل عانقه وأرسل نوره من قلبه الشريف إلى قلبه فبعده قال الرجل "ما عشقته لما دخلت أكرهه حين أرجع". ما أجمل التربية هذه !

 ففي كل معنى من المعاني كان النبي صلى الله عليه وسلم أسوة سديدة ومسلكا رشيدا. وفيه أسلوب مثيل للحياة من ألفها إلى ياءها. فلذلك صدر منه النهضة الثقافية ونبع منه الحياة الجلية. برسالته تركوا المخدرات والخمر تماما ، حزنوا بالحرام حتى بالنظرة ،حولوا الربى إلى الصدقة والزكاة ، و اعترضوا عن العصبية وعانقوا الأخوة والمحبة ، وثمن فيهم علاقة الجيران والرحم ، نبع منهم الرأفة والرحمة بقوله "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". صاروا عدلا كاملا ، زهدوا الدنيا وخضعوا إلى ثمرات الأخرة ، رفعوا رتبة النساء والولدان ، وودعوا الحرب والحرمان ، وفي الجملة علت قيمة الإنسان. والسبب الرئيسي وراء هذه النهضة الثقافية في الشعب الذين كانوا في الفوضى والتطرف والقتل والقتال ، وجميع المسيئات ، إنما هو كمالية هذا النبي وكمال أسوته النيرة الجلية. 

فما أصدق قول الإمام  البوصيري 
فمبلغ العلم فيه أنه بشر
و أنه خير خلق الله كلهم

عامر الحسني
باحث في جامعة الأزهر

إرسال تعليق

أحدث أقدم