السيد علوي المنفرمي:قطب استقطب الأقطاب


 على رفوف مكتبات التاريخ الإسلامي تستلقي سِيرعظيمة لرجال عظام . منهم من هاجر بلاده مبتعدا من أهله وعياله و رافعا راية الإسلام وبهجتَه إلى ظلمات الجهل والضلالة، منهم من أشهر سيفه وغسله بدماء الكفّار والمُلحدين لإعلاء كلمة الله، منهم من صار ملجأ الملايين ومهدأ المعاقين. ولكن اشتمال كل هذه الصفات الحميدة في شخصية واحدة فذّة أندر من كبريت الأحمر.يسمّي العالم هذا الكبريت الغالي قطبَ الزمان السيد علوي مولى الدويلة المنفرمي.

تولّد السيّد في تريم من حضرموت باليمن وتلقى الدراسات الإعدادية من بلدته.وكان يعجب الجميع منذ نعومة أظفاره بنبوغ العقل والفكر والصدق وحسن السيرة.وتمهّر في اللغة العربية في الصغر حتى صار من أفصح من نطق بها.حفظ القرآن وهو ابن ثمانية سنة.وكان يسمع من الجميع أن السيّد حسن الجفري وغيره من آبائه قد ارتحلوا بالفعل إلى كيرلا لإشاعة دين الإسلام في ربوعها، حتى صار قلبه مشغوفا للمسايرة معهم في هذا الهدف المرموق واستأذن من أهله وركب البحر ونزل في كالكوت سنة 1183 رمضان 19 وهو ابن سبع عشرة سنة.

يمكننا أن نقول بلا تمحيص، أنّ نزوله في تراب كيرلا صار نقطة تحولية لأهلها حيث انبسطت أسارير وجوههم  بالفرح وغطّوه بفُرش الحب والأمان كما قام السيد بحلّ أمورهم الشاقة في شآبيب القضايا التي لا أبابكر لها.ولا أغالي إن قلتُ، أنّه صار ملجأ كيرلا بأسرها. واعتبارا مِن توطّنه في بلد ’منفرم ‘المُقامة في مليبار اشتهر باسم ’السيد المنفرمي‘.

وقبل وصوله في كيرلا, التحق السيّد حسن الجفري بالرفيق الأعلى .وقبل وفاته أوصى لقاضي بلدة ’ ترورنغادي‘ جمال الدين المخدومي أن يترأس للأمور اللازمة كي ينكح بنته السيدة فاطمة بعالم سيّد يأتي من حضرموت، وهو السيد علوي مولى الدويلة .في نفس العام الذي نزل في كيرلا 1183 أقيم هذا الزفاف بينهما.فهي زوجته الأولى. وتولد منها بنتان فكانت الأولى منها شريفة علوية إلا أنها ماتت في صغرها. فسمّى بنته الثانية نفس الاسم واشتهرت باسم كنجي بيوي. 

وبعد وفاة الزوجة الأولى، نكح فاطمة بنت السيد أبو بكر المعدني .منها ولد السيّد فضل بن علوي المشهور بفقاهته وعلومه وموقفه المتشدّد ضد المستعمرين البريطانيين.وزوجته الثالثة عائشة أخت محي الدين شهيد معركة جيرور. فكانت فقيرة لا ملجأ لها فآواها السيد علوي. منها بنتان فاطمة، صالحة. وهؤلاء الزوجات الثلاثة المذكورة توفين وهو على قيد الحياة. أمّا زوجته الأخيرة التي عاشت عند وفاته هي ’صالحة‘ التي تنسب إلى ’دلي‘ في ديمور التي تقع في أحد جزائر إندونيسيا.

لمّا وقع في سمع القاضي عمر أحد كبار العلماء في كيرلا آنذاك، أقاويلَ عن السيّد قطب الزمان وشهرته وقبوليته بين العوام والخواص أراد أن يختبره ويعرف الحقائق وراء هذه الأقاويل. وانصرف إلى منفرم ،فكان السيد في بيته مغلقا أبوابه.فطرق الباب فسُؤل: من على الباب؟.فجاوب: أنا القاضي عمر على الباب.فقال السيّد: أعمر الجاهل؟. فانمحى كلّ علمه كأنّه صار جاهلا حقا.بعد صمت قليل، أردف السيد: أو أعمر العالم؟.فرجع إليه علمه وفكره الذي اكتسب باجهد الجهيد والعناء الشديد.ففهم القاضي نبوغه وولايته وتلمذ عنده ملتقطا الدرر النفيسة من فيه.

مرّة، مرضت زوجة السيد فاطمة المليبارية مرضا شديدا، فأتى رجل يخبره عن سوء هذا الحدث المهيب، فلم يأت لعيادة زوجته المريضة لما كان في شغل شاغل فماتت. فذهب إلى بيتها.فطفق الناس يلومنه لما لم يقم بعيادتها قبل.فلم يعاني بهذه الأمور،بل وقف أمام الجنازة وقال: قومي بإذن الله.فقامت. تعجب الناس عن بكرة أبيهم رؤية هذا الأمر العظيم بأعينهم.وذهب بها السيد إلى منفرم.واقترح لها استعمال ماء الورد عندما اشتمّ منها رائحة كريهة تخرج من الميت غالبا.فاستعملت ولم يذهب ذاك الريح الوردي من جسدها بعد ذلك أبدا.لذا اشتهر ابنها فضل بن علوي باسم فضل بوكوي والذي يحمل معنى الورد.

ولا غرو أن يستقطب السيد أفئدة المجتمع، فإنه كان على أشد العزم في أمور الدين وأوامر الله ونواهيه.ومن الملحوظ، أنّه تولّى الأمور السياسية والثقافية مع الأمور الدينية اللازمة.وقام بحفاظ الطبقات المهمّشة مثل طبقة دلت من أدنى طبقات الهندوسية والتي كانت تخضع أمام إغارة الظالمين، داعيا لهم إلى واحة الإسلام بوعد الأمن والسلام. وقام في مقدّم الاحتجاجات السافرة ضد البريطانية وشركة هند الشرقية حتى اشتهر كتابته المشهورة ب’سيف البتّار‘.

ولا شكّ أنه كان للسيّد كعب طويل ويد طولى في الأدب العربي أيضا كما نبغ في أفانين الفنون.وكان يقرض الأشعار ارتجاليا من غير تردد.من بعضها: 

أربعة من الطيور طيورا       

طاؤوسنا ديك غراب نسر

كبر وشهوة وحرص والعجب

وهذه أخلاق أصحاب الكذب

ومن أشعاره المشهورة ضد التدخين في ظلّ حال إكباب المجتمع عليه وإدمانهم عليه:

حبائل الشيطان للإنسان     

  فتائل الدخان والنيران

وكذلك الكثير من الأشعار التي تحمل في طياتها معاني الأدب والإعجاز والإعجاب معا.

رغم وجود هذه الأنشطة اللامثيلة التي قام به السيد علوي، لا تزال تطعنه بعض الأيادي المظلمة وراء الكواليس وتبيّض أعين الناس بأقاويلهم الشنيعة في أمره، حيث يقول ’اس.اف.ديل‘ بأن السيد علوي كان شخصا وقف ضد الهندوسية .والحق يقال، أن هذه الدعاوي ليس لها إلاّ مصداقية مزيفة بلا تمحيص.والتاريخ شاهد على ذلك. يقول كي.أن.بنكّر في أحد كتبه: "لا شك أن السيد علوي قام ضد الاستعمار والبريطاني وتغوّلهم على بلادنا وترأسه للجهاد للمقاومة.وهذا لا يعني أنه كان ضد الهندوسية ،بل هو الذي لعب الدور القيادي في إتحاد المسلمين وغير المسلمين وتوقيفهم تحت الراية الوحيدة معلنا بأن الإتحاد هو القوة الوحيدة ضد هؤلاء الظالمين الذين يقهرون علينا بشعار تكتيك فرق تسد.واللافت أنه كان يتمّ توظيف الهنوسين إلى الوظائف الشاغرة في مشاريعه وخططه".ومن المعروف لدى الجميع بأن رفيق السيد الذي كان يرافقه أنّى يذهب ’كوندو ناير‘ ما كان مسلما.وقد حضر في كثير من خطط أنكحة الهندوسيين وقام في مقدمتها بلا خجل.

وأدلّ دليل حيّ على ذلك، حفلة ’كوي كلياتم‘ التي لا تزال تعقّد حاليا بلا انقطاع. وكان السيّد من قام بتعيين اليوم لهذه الحفلة قبل سنين، وهو يوم الجمعة. حتى الآن رغم مرّ الزمان وكرّ العصور، تبتدئ هذه الحفلة بزيارة مقبرة السيد كل سنة.

بعدما تمّ ما أراد الله به، أصابته الأمراض المعدية سائر الجسد خاصة في رجله.وذلك لما تعرّض لإطلاق نار في رجله خضم مقاومة حدثت في جيرور سنة 1259ه /م1844.وصاحبه هذا الوجع حتى الموت.ومات سنة 1260ه /1845م يوم الأحد الموافق ل محرم 7.وكان عمره يبلغ 94 آنذاك.وفاض إلى منفرم بحر الملايين سماع هذا الخبر الحزين .وتكرر عليه صلاة الجنازة مرّات بعد كرّات.استنادا إلى الكتب التاريخية المعتمدة، لم يتسنّى لحضّار جنازته أن يرفعواه ليتمّوا تغسيل جسده الشريف،حتى أتى تلميذه الحبيب القاضي عمر ورفعه. وقال معبّرا عن قلقه وأساه الذي بات في صميم قلبه : "أغاب بدر الهدى..." وحسب محسبات أبجد، مجموع هذه الكلمات التي قالها القاضي عمر تبلغ 1260 إشارةً إلى سنة وفاته.وفي نفس الليلة، بات في بيته وأنشد مرثية له. منها 

قطب الزمان سراج الأرض سيّدنا       

 من دار دنيا إلى دار البقاء سرى

شكا فرخته "أغاب بدر الهدى"        

 فتوافق الحق في الأمرين قد قدرا

واشتهر السيّد بعد وفاته قطبا لزمانه بلا نزاع. وحُقّ له أن يُدعى به ويُشتهر. في هذه الأيام أيضا يبقى مقامه ومزاره مأوى اللاجئين والمرضى والفقراء والأغنياء بلا تفاوت. كفانا هذا دليلا أنه استقطب الجميع حتّى الأقطاب.


محمد شكيب أرسلان

باحث في قسم اللغة العربية وآدابها

 جامعة دار الهدى الإسلامية


إرسال تعليق

أحدث أقدم