وهي أسرَةٌ استُعْطِيَ بها الهُدى في ديار مليبار واستُجْلِيَ بها العَمَى في مجتمعه الإسلاميّ، وامتلأت سُمعتُها مدَى الخافقَين وبلغ تأثيرُها إلى ناحيَات نائِية، ولقد تبوّأتْ أسرة المخدوم في هذه الدّيار منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وتقعّدوا في بلد «فنّان» الّذي يلقّب الآن «بمكّة مليبار»، وعلى هذه الأسرة تعود فضلُ كلّ الأنشطة الخيريّة والصّحوة الإسلاميّة والاجتماعيّة في ديار كيرالا، لأنّهم ضحّوا أنفسَهم وأنفاسَهم وقِدَمَهم وساقَهم لنشر دين الإسلام وترسيخ معاليمه وثقافته فيها، وبنوا المساجد في مختلف الأصواب، وركّزوا فيها بالحلقات العلميّة والدّراسات الإسلاميّة، وجاء إليها آلافٌ مُؤلَّفٌ من بلابل العلم وتلامذته وحتّى أصبح البلد «فنّان» محطَّ الرّحال الدّينيّ وكعبةَ العلوم الإسلاميّة، والّذين قاموا بهذه العمليّات الطيّبة والقيادة الروحانيّة هم عَضّوا بنَواجِذهم الطّريقَ القرآنيّ، واعتصموا بالسّنة النّبويّة، وأحسنوا المعاشرة مع المجتمع، وعاملوا بالنّاس معاملة سمْحَة، فتأثّروا في قلوب النّاس تأثّرا بالغا، فأحلّوهم محلّا عاليا، فأقبل على الإسلام وتعلّمِه،وتخلّقِ بثقافته أُناسٌ كُثُورٌ، علاوةً على ذلك أنّ في كيرالا كفّارًا وثنيِّين وفي دينهم تنويع النّاس في طباقات اجتماعيّة، وكان أسافلُهم يزرَحون تحت نٍيْر الأعالي، بتنكِيبات عَنفَة وتعذيبات وَحْشيّة، فنَفّر هؤلاء دينَهم ونظامَ شريعتهم، فقصدوا الإسلام تأثّرا بحسن معاملات سادة الإسلام، ورجاءَ تخلّص من النيران الكفريّة، وعانقهم الإسلامُ معانقة بدون تفاوت ولا تقسيم، وضمّهم إلى صدور المسلمين.
-نسبة المعبري-
انتماء نسبةِ أعيانِ هذه الأسرة إلى «المَعْبَر»، وهو بلْدة تقع بجنوب الهند في ولاية «تاملنادو» مجاورة مليبار، وقد تضاربَ آراءُ الباحثين في تعيينها، حيثُ قال بعضٌ: إنّ أصلَ هذه الأسرة يرجع إلى «المعبر» في اليمن، فأمّا بعضٌ فيرفض هذا وقالوا: إنّها يُنسبون إلى «المعبر» في ولاية «تاملنادو» حيث يُقِرّون أنّهم وصلوا أولّا إلى بلدة «المعبر» في جنوب الهند، ثمّ انتقلوا إلى «كوشن»، ثمّ إلى بلْدة «فنّان» وامتدّ فروعُهم في جنوب الهند مثل «كِيْلَيْكَرَى» و«كَايَلْ بَاتَنَامْ» وأنّ البقاع الّتي أقاموها كانتْ تُعرف ب«المعبر» عند العرب والعجم، وكان مليبار أيضا يُعَدّ من «المعبر».
-الصّحوة الدينيّة والعلميّة-
هذه الأسرة أهدتْ إلى مجتمع مليبار عددًا من العلماء الربّانييّن والورِعِين، والمجدِّدين النابغين، الّذين أسدوا لنشر التعليم الدّينيّ وتزكية القلوب وإثْراء عالم الكتب الإسلاميّة شيئاً كثيرا، وواضعُ حجر الزّاوية لهذه الأسرة في صعيد كيرالا هو الشّيخ القاضي زين الدّين إبراهيم بن أحمد، الّذي وفد أولّا من «المعبر» عن طريق «كِيْلَيْكَرَى» و«كُوشِنْ» ثمّ «فُنّان»،أو« بُنّاني» حيث اتّخذه سكنا له وشرع إلى الأنشطة الخيريّة والدعويّة والإصلاحيّة، ومن طليعة هؤلاء المخدوميّين الشّيخ عبد العزيز بن زين الدّين الكبير، وعلي حسن المخدوم، وزين الدّين المخدوم الأخير، والشيخ أحمد باوا مسليار المخدوم بن الشيخ المخدوم الأخير، والشيخ عبد الرّحمن المخدوم
وهناك أمور عدّة من نتائج تلك الأنشطة التّي قام بها هذه الأسرة الشّريفة، وأولّا: أن بلدة «فنّان» جرتْ سُمعتُها على نطاق العالم عامّةً وداخل الهند خاصّةً، بأنّها مركزٌ للعلوم والإدارة وأنّ جامعَ «فنّان» منبعٌ للثّروة الدّينيّة في ديار مليبار، حتّى بُنيَتْ مساجيدُ جمّةٌ في شتّى أنحاء البلاد تَبَعًا للجامع تحت إشرافه المحكم، وجُمع المسلمون تحت لواء واحد، من نظام دينيّ دوّنَه قضاةُ الجامع ومُعلّمُوه، وتنفّذَ هذا النظامُ ومنوالُ الإدارة الدّينيّة في كلّ مساجيدَ تحته، فصارت المساجيد بين الأمّة كمحكمات شرعيّة للنّزاعات الدّينيّة والدّنيويّة، من غير تحاكمها إلى المحاكم الحكوميّة، وكذلك عمِلتْ تلك المساجيد محاورَ للنّضال عن شرف البلد وأمْنِه ودفاع الأمّة ودينها من أيادي براثِين الاستعمار والطّغيان والاحتلال الأجنبيّ، حيثُ أُذِيع فيها رسالاتٌ حرّكتْ الشّهيّة للدّفاع عن الدّين والبلد والكفاح عن الأمّة والأسرة، من أشهر الرّسالات التّي صُنِّفت في طريقها رسالةُ «تحريض أهل الإيمان على جهاد عبدة الصّلبان» للشّيخ أبي يحيى زين الدّين بن علي زين الدّين الأوّل، ورسالة "تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليّين" للشّيخ أحمد زين الدّين المعبري المليباري.
وثانيا: أنّ مساجيدَهم تعالتْ إلى الجامعات الإسلاميّة في مليبار، وأصبحت مُعُنًا تُروِي غليلَ آلاف الطّلاب، ومحاورَ لصحوة علميّة فائقة جاء إليها طالب العلم من كلّ حدب وصوب من داخل مليبار وخارجه، فشاعت الشّريعةُ المحمّديّة بين أرجائها ورسخت في معاملاتهم الدّينيّة والدّنيويّة وشتّى مرافق الحياة اليوميّة، وبعد إتمام الدّراسات والقراءة على أعيان المخدوميّين ونوابغ العلماء يُعيَّن الطّالبُ قاضيا أو إمامَ بلد في
إحدى المناطق، وكلُّهم كانوا على طريق القرآن اعتصامًا والسُّنن النّبويّة استمساكًا، وعلى الورع التّام والإيمان الصّادق، والمعاشرات الحسنة المغبوطة، حتّى أثّر كلّهم عوامَ النّاس وخواصَهم، وانْدمجُوا بهم، فأسلسَتْ لهم فيهم تربيّةُ الإسلام الصّحيحة ودعوةُ الدّين الحنيف.
وثالثا: أنّ من أكبر أدلّة تأثير الأسرة لأهل كيرالا، حلقاتٍ علميّةً لا تزال مستمرّةً في أغلب المساجيد في كيرالا، ما من عالم مُدقّق مُتفنّن ماهر في العلوم في تلك الدّيار إلا وهو من أحد إنتاجات هذه الحلقات، ودروس المساجد، والنّسقُ الذّي يُتَّبع فيها هو النّسقُ المعبريُّ الذّي صاغَه الشّيخ زين الدّين المخدوم حين كان قاضيا في جامع «فنّان»، وقام المخدوم الصّغير فيه ببعض تصرّفات من إدراج بعض كتُبٍ لا ينبغي إهمالُها، من التّفسير والحديث والفقه والتّصوف والنّحو والصّرف والبلاغة والتّاريخ والمنطق والحساب والفلك والطّب وغيرها، كما صنّف هو في بعضها كتُبًا قيِّمًا صارتْ مهمّاتٍ وعُمَدًا في دراسة الدّين، ولهؤلاء العلماءِ أواصرُ روحيّةٌ وصلاتٌ وطيدةٌ بالمسالك الصّوفيّة وعباقرِ الأتقياء والأولياء، كما لهم مواقفُ مستحسنةٌ ضدَّ المستَعمِرين وأعداء الدّين والوطن، ومساهماتٌ في مقاومتهم ومكافحة الأمّة، بالسيّوف والألسنة والأقلام.
ورابعا: من ثلّة تلك الأنشطة تنميّةُ الخطّ الفنّانيّ، وهو ممّا يَجْدُر بالإلماحِ إليه بالبنان في نُموِّ الدّين الإسلام في مليبار، وهو يتفرّدُ ويمتازُ بما فيه من المزايا من خطوطِ العربيّة، كما في النّسخ والرّقعة والفارسي والكوفي، وهو خطّ عَمُوديٌ وأفْقِيٌّ بلا اعوِجَاج مزيد، وأعظمُ تراث العربيّة التّي طُبعتْ والتّي خُطِّطتْ بمليبار بهذا الرّسمِ والخطِّ، كما كُتِب المصحفُ والكتُبُ الأخرى، وهو أليَقُ وأيسرُ للكتابة والقراءة مع مراعاة قواعد الرّسم العثمانيّ، لكن من سوء الحظّ أنّ هذا الخطَّ لم يلقِ رواجا وقبولا في خارجها وعند الخطّاطين العالميّين، ولم يطرُقْ فضلُه مسامعَ العالم العربيّ كما ينبغي، وأيضا أنّه يكاد ينقرض أثارُه وينمحي بقاءه في داخل مليبار بسبب تفوّق الخطّ النّسخ والخطوط العالميّة.
وخامسا: أنّ الجهابذة منهم أهدوا لإثراء المكتبة الإسلاميّة كتبا جمّةً ذاتِ شأنٍ ووزْنٍ، تلك الكتبُ تلعب دورا حيويّا فعّالا في تعلّم الدّين الشّريف والشّريعة واللّغة العربيّة عند أهل كيرالا خاصّةً وخارجها عامّةً، ومن بينها كتاب «فتح المعين بشرح قرة العين» الذّي ألّفه الشّيخ المخدوم الصّغير، هو درٌّ في الفقه الشافعيّ وغُرٌّ في أحكام الدّين المهمّة، وعُمْدةٌ متداولةٌ عند العرب والعجم، وقيل عنه:
"فتحُ المعينِ كتابٌ شأنُه عجَبٌ حوَى من الفقه ما لم يحوِه كتُبٌ..."
يدلّ على عُلوِّ قدره وعظيم شأنه أنّ العلماء الكبار قد خدموا لهذا الكتاب شرحا وحاشية، وتعليقا وتدقيقا، مثل كتاب «حاشية إعانة الطّالبين»في أربعة أجزاء للسّيد البكر الدّمياطي المصري، و«ترشيح المستفيدين بتوشيح فتح المعين» للسّيد أحمد السّقاف المكي، و«إعانة المستعين على فتح المعين» للعلامة علي بن أحمد باصبرين، ومن بينها كتاب «تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليّين»، للشّيخ زين الدّين المخدوم الصّغير، هو من أول رئيل الكتب التّي صُنِّفت في تاريخ مليبار وأحوالِه حين سيطرةِ قوّاتِ الاحتلال الغاشم في الهند في القرن الخامس والسّادس عشر الميلاديّ، وهو المرجِعُ الموثوقُ الذّي يُعتمدُ عليه في أخبار دفاع المسلمين ومساهماتهم في حرب الاستقلال، ونضالهم ضدّ أياد الاستعمار، وكتاب «تحريض أهل الإيمان على جهاد عبدة الصّلبان»، للشّيخ زين الدين المخدوم الكبير، وهي قصيدة منظومة في أدب المقاومة، تَحثّ وتُحرِّك الأمّة وتَلمحُ إلى ضرورة القيام بالدّفاع ضدّ الأعداء والقوّات الأجنبيّة، وهناك علماء أجلّاءُ ذوو الملكة والمهارة من المخدوميّة، وكتبٌ قيّم أخرى من بنات أقلامهم، لكنّ أغلبهم لم تحظَ بالطّبع والنّشر، إمّا بالتّلف أو بالتّساهل.
الشّيخ عبد العزيز بن زين الدّين الكبير (٩٩٤ه)
هو ابن الشّيخ المخدوم الكبير وعمّ المخدوم الصّغير، قد تولّى القضاء والتّدريس في «فنّان» بعد مدّة والده، وبعض مؤلّفاته:
كتاب المتفرِّد
باب معرفة الصّغرى والكبرى
أركان الصّلاة
مرقات القلوب
مسلك الأتقياء شرح هداية الأذكياء
شرح ألفيّة ابن مالك ( من باب الإضافة إلى آخره)
علي الحسن المخدوم (١٢٩٧ ه)
كان قد أخذ من الفقه والشّعر العربيّ وغيرهم حظّا وافرا، وله اليَدُ الطُّولَى والقِدْحُ المُعَلَّى في جميع العلوم والفنون، ومن تأليفاته:
ديوان الأشعار
القصيدة في حكم الشّطرنجيّة
كتاب في العروض والقوافي
كتاب في علم الفرائض
الشّيخ زين الدّين المخدوم الأخير (١٣٠٥ه)
كان من أتقياء الأسرة وذا ورع وزهد، وله السّابقةُ الأُولَى في علم النّحو وهو نالَ من اللّغاتِ الأخرى نَصيبًا واسعًا، ومن التاريخ علَمًا منصوبا حتّى إنّه كانَ بَيْنَ أقرانِه ومَعاصِيره يُشْهرُ بِلَقَبِ "ابن حليكان"، وكان مُولِغًا بالتّدريس وخدمات العلم مَدى عمره، ونال من المسالك الصّوفية منالا عظيما حيث كان شيخَ الطّريقة القادِرِية والنَّقْشَبَنْدِية والجِشْتِية، من بعض آثاره:
-حاشية على قصيدة السّؤال والجواب
-نصر العليم
-مناقب السّيدة نفيسة المصريّة والسّيدة فاطمة الزّهراء
الشّيخ أحمد بافا مسليار المخدوم ابن المخدوم الأخير (١٣١٤ه)
وهو أيضا جادَ بالقلم للمكتبة الإسلاميّة كتبا عديدة، بما فيها:
-تحفة الواعظين
-تبشير الواعدين
-تحذير الإخوان من مكائد النّسوان
-مغانم الإخوان في تفسير الأدوية للحيوان
-معدن السّرور في تفسير سورة الطّور
الشيخ عبد الرّحمن المخدوم ١٣٤١ه
وهو كان في منصب قاضي القضاة في «فنّان» واستمرّ عليه نحوَ أربعين سنة، فإن له تعمّقًا ونُبوغًا في المسائل الفقهيّة والأحكام الدّينيّة، ولذا كان يُدعَى ب"هيتميَّ زمانه" و"رمليَّ أوانه"، وهو الذّي بنَى "مجلسَ مَعُونة الإسلام" ب«فنّان»، الذّي هو معهدٌ يُمسِكُ سواعِدَ جُدَدِ الإسلام والمُهتدِين، ويُدرِّسهم الدّينَ والشّريعة كما يُمكِّن لهم جميعَ ما يُحتاج من المسكن والقوت، مع عناية بالغة في ترسيخ أساس الإسلام ومبادئه وتعاليمه في نفوسهم، ومن بعض كتبه المشهورة:
-كتاب في ترجمة قصيدة الوترية
-كتاب علاج الأطفال
وهذا عَيضٌ من فَيْض أخبار أسرة «المخدوم» وفضائلها، والثّروة التّي نشبَتْ من مجهوداتها ومساعيها، وأخبارِ أعيان أعضائها وتأليفاتها، ولا تاريخَ للإسلام في مليبار مع غضّ النّظر عن هؤلاء النّوابغ، والكتم عن تأليفاتهم التّي لها دور لا يُستهان به في نهضة الأمّة المحمّديّة ونموّها في تلك الدّيار.