يا صاحب القبض والبسط والتدبير
تعلم أنّي تعسة، هاجرت أمّي وهي تضطرب وتتصارم للحياة بعدما صُبّت عليها شعلات الظلام الظالمة وتتصارع إلى اليوم وأنا مقبوضة مدفونة أتخبّط في هذه الزنزانة الموحشة.
أتذكّر، كنت في الثالثة من عمري، ذهبت إلى قرية راندهيكبور مع والدتي، قرية صغيرة تسكن فيها أصول أمّي، كم أنا فرحة عندما كانت جدّتي تتماسك كتفيّ بأناملها المرتعشة، وتحتضني فتحفّني بحفاوة الفرحة والسرور بالتلاعبات معها، وكنت عالمة بأنّ صبغة دامية وقارعة هالكة تنتظر على عتبات ديارنا، فتُفقع عيوننا، وتُقطع رؤوسنا، وتُضرم فروجنا، وتسجّل أسماؤنا في قائمة أسوء مأساة تاريخ غجرات- مولدي ومولد أسرتي الحنونة.
ففي اليوم الأوّل من مارس سنة 2002، عندما كنت أتناول الغداء في بيت جدّتي، جاءت عمّة أمّي راكضة ومعها أولادها، وجهها الشجي ودموعها الفيّاضة أنبأتنا بقلق ضار، أخبرت أنّ منزلها أضرمت واضطرّت إلى المغادرة بالفور، وأنّ القرية تتأجّج بلهيب التطرّفيّة الهندوسيّة واشتعلت النار وسرت لظاها ديار مسلمي غجرات، أطفال رضّع تُقتل، ونساء حبلى تُزنى، وشيوخٌ متخبّطة تُقتل، أما الرجال يهربون أو يقتلون، كأنّ الدنيا ضاقت علينا بكل الجوانب، ليس لنا مفرّ ولا مهرب، لكنّ الحياة أغلى موهبة منك يا ربّي، فغادرنا ديارنا بالملابس الّتي كنّا نرتديها فقط، حتّى لم نجد وقتا كافيا لارتداء أحذيتنا، كنا أربع عشرة من الأشخاص، أنا من بين الأطفال الأربعة، وأمّي الجميلة مع أمّها من بين النساء، تبلغ من العمر عشرين فقط، خرجنا نفتّش لملاذ آمن، حيث كانت زفراتنا تتعوّذ بنفوسنا، وتوغّلت الاضطرابات في عروقنا إلى أن حسبنا أننا نتقارب إلى تلك الشموع الملتهبة المتّقدة، خيّل إلى لِلحظة بأنّ العالم كلّه نبذنا بنوافذها المغلقة وأنا أضطرب في حضن أمّي والآهات تتعالى على مرور الأوقات.
ففي اليوم الثالث من مارس، حقّقت الأيّام مخاوفها، كنا نحوم طوال يومين بحثا عن الملاذ الآمن، عن المكان الّذي تهدأ فيه نبضات قلوبنا، فخرجنا متسارقا عن أعين الأوحاش إلى مكان، ما أخبرنا بسرابه، ركبنا شاحنة، نعم، الشاحنة الّتي تستخدم لتنقّل الأموال، وعندما كنّا ببعض الطريق، نزلت علينا أسوء كارثة فاجعة، هاجم علينا بعض من أهل الدعارة من الهندوس المتطرفين، فيا لنا من مصيبة يا ربّي، أتذكّر وكأنّي أسيل الدموع السوداء على وجنتي، نعم وثبتْ علينا تلك الجماعة الغوغائيّة فأمطرت علينا وحشيّتها الظالمة وفاشيتها المتغطرسة وشهوتها البهيميّة، أتذكّر وأنّي أكاد أجن أو أختنق بعد مماتي يا ربي...
فأمّا قصّتي أنا، فقد اختطفوني من حضن أمّي، وأنا أصيح، فأجهشت بالبكاء، ولكنّهم انتهبوني وأمّي تائهة خائفة تصارعهم بغاية من القلق والتألّم، وبعلامات الجزع والخوف الّتي كانت في ملامح وجهها الأنيق الوسيم، أخذوني وجعلوا يضربون بي حجرا كغسّال الثياب، حتّى تقطّعت أجزاء جسدي، والدماء تنفجر هيجانا حتّى اختطفني يد المنون، أمّا أمّي الحامل وجدّتي العجوزة وعمّتي الشقيّة، فيا فضيحتاه على الصفحة الإنسانيّة، جرّدوهنّ عاريات، وأشبعوا نفوسهم بالشهوة الوحشيّة المتمرّدة، كانت أمّي تضطرب يا مالكي، وتُنبع توسّلاتها الفاشلة، وتستعطف بكل الإهانة البالغة، أمّا هؤلاء الحيوانات سجلّوا أشقى أنواع الوحشيّة الشرسة، فكم من مرّات زنوا، وكم من مرات غلبوا عليهن بضروب من المظالم والشرور، فعلوا بهن أقذر مما يتصوّر العقل، هكذا قتلوا الجميع، أمّا البعض فقطعت الأيدي والأرجل، وقد سملت عيون البعض وبقرت عيونهم، فما تركونا بل قتلوا إربا إربا، إلّا أنّ أمّي نجت ولعبت بها الحظوظ لتحيا كئيبة حزينة في غياهب العتمات المدلهمّة طوال الحياة، فقد تركوا أمّي ولم يبقروها معتقدين أنّا ماتت وهي في حالة اللاشعور.
كانت أمّي في حالة اللاوعي لمدّة ثلاث ساعات متوالية، حتّى تيقّظت ووجدت نفسها مشرودة عارية، فهربت حتّى ألجأها إمرة بدويّة وأعطاها ملابس تستر بها جسدها، وهنا بدأت المعركة وجعل رحى الحرب تدور بين أمي وطائفة شرسة ظالمة من الهندوس.
ذهبت أمّي على الفور إلى محطّة شرطة لمكهيرا، كان رجل فاحش خبيث مسمى بسومابهاري أمين هذه المحطّة، بيّنت أمامه كل الحقائق بالتصريحات الواضحة لكنّه رفض لإجراء أيّ عمليّة قانونيّة حتّى أرسلت إلى معسكر الإغاثة، فجاء بها أبي وأهدأها، وكان أبي عالما بكل ما جرى ولكنّه صبر، أمّا أمّي الكئيبة، فالجرح أضرمها كان كبدها يغلي متأجّجا متلظّى، حتى ابتدأت حربا قانونيا مع هذه الطائفة بالصراعات المتتالية من محكمة إلى محكمة، بينما قام بعض مسؤولي الشرطة والدولة بتهديدها حتّى تلقّت تهديدات القتل وأتلفوا الأدلّة ودفنوا سائر القتلى بدون تشريح الجثث، لكنّها صمدت أمام صمود الجبال الراسيات، وقامت تواجه سائر التحديات، وقد تغيّرت مقام إقامتها حوالي 12 مرة حتّى أحيلت القضيّة من محكمة غجرات إلى ممباي،وقامت محامية مسماة بشوبا غوبتا بنصرتها حتّى فازت أميّ سنة 2008 الحادي والعشرين من يناير، وحكمت المحكمة بالسجن المؤبّد لأحد عشر حيوانا ناطقا في سجن غودهرا بجريمة الاغتصاب الجماعي.
ولكن المعركة لم تنته بعد، كانت أمّي تجتهد لنسيان ما مضى بعد كل هذه المجاهدات والمكابدات، مع أبي وأخواتي الثلاثة حاليا، كانت واثقة بعدالة المحكمة العليا، لكن ثقتها انهدمت حينما أصدرت المحكمة بالإفراج عن المدانين بالتزامن مع احتفال الهند بالذكرى الخامسة والسبعين لاستقلالها، وهي كانت عاجزة يا مهيمن يا جبّار، نعم، يا ربّي أمّي بلقيس تعبت...