موت صغير؛ رواية من يرتحل لصفاء الفؤاد

       محمد حسن علوان روائي شاب مقيم في كندا استطاع أن يثبت بسهولة أن التميز لا يتطلب بالضرورة مساحة زمنية طويلة ‘ ولا كما سرديا كثيرا فمن خلال خمس روايات فقط حتى الآن ‘ وصل علوان إلى  مرحلة صنف فيها سنة 2010 ضمن أفضل 39 كاتبا عربيا تحت سن الأربعين.

 رغم أن من قرائة التاريخ الاجتماعي ودراسة الأحوال السياسية من كتب التاريخ،إلا أن الرواية تفيد تجربة تاريخية.وعند قرائتها يتحتم فيها أن يحكي بالأحوال الاجتماعية والسياسية التي عبرها حسن علوان. الرواية التاريخية وإن كانت معتمدة على النصوص التاريخية لا يعد وسيلة معتمدة للتعارف بطل الرواية. لأنها متخيلة,والتارخ مكتوب. وهذه الرواية موت صغير تعد تعبيرا  عن حياة ابن عربي الشخص الذي أثار جدلا في التاريخ الإسلامية أو أنها سطحية يحتوي على رحلات ابن عربي وأحواله الصوفية بصفة عامة.

         رواية موت صغير الحائزة بجائزة البوكر(Booker Prize-2017) للرواية العربية عام ٢٠١٧ لمحمد حسن علوان كاتب سعودي تحكي حياة ابن عربي ورحلاته الصوفية من مولده في موطن مرسية  إلى مكان وفاته بدمشق. وهذه الرواية  تجلب القارئ خلال أحد عشر سفرا تشكل مئات مقطع مؤثر تناهز ست مئة صفحة. إن الرواية مخيلة، والتاريخ مكتوبة. إن الدمج بين الرواية والسيرة يحتاج إلى الحياكة الماهرة.لا سيما عندما يكون ذلك سيرة ابن عربي.لا نرى صوفيا ولا تقيا غير ابن عربي تحدث و تجادل العلماء عن اعتقاده وأقواله في دورة التاريخ الإسلامية والصوفية.وهناك ثلاث فرقات من العلماء .منهم من تكلم أنه الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر ذي تقوى ومكانة عند الله.ومنهم من تكفره وقال بأنه زنديق.ومنهم من توقف على أقوالهم.

         في الرواية  هو شخص ذا ترحال وتجوال يسعى لأن يلقي أوتاده الأربعة لثبوت حياته الصوفية.وابتدا بسفره لقول شيخته فاطمة "طهر قلبك...." وراح يبتدأ رحلته الصوفية. فالوتد الأول شيخ صوفي منصرف للعبادة. والثاني صديق مقرب جدا. والثالث وتد الحب والعشق في شخصية حبيبة نظام. والأخير درويش يتقن الكشف والكلام والحب.فلو جمعت كل هذه الأوتاد لكونت حياة راسخة ثابت بطهارة القلب. وابن عربي أحب فتاة وهو في مكة تسمى نظام.وكانت هي وتده الثالث.وكان هذا الحب مشعلا من مشاعل حبه الإلهى الصوفي.ونظام كانت بنت الأصفهاني رجل من أهل العلم اتصل به ابن عربي فعلق قلبه بابنته.وقد ألف فيها كتابه ترجمان الأشواق ظاهره عشق هذه الفتاة وباطنه حب الله والفناء فيه.وهذه الواقعة وكتابه ترجمان الأشواق أثار من ظاهره مجادلات شتى.حتى أن الناس شتموا وغضبوا على الشيخ الأكبر واتهم عامة الناس أنه شخص أولع في حب الفتاة من دون طاعة الله.وهذه الأزمة يعبر علوان في روايته.حتى أن ابن عربي بكى بكاء شديدا لاتهام الناس شيخه وابنته.وأراد أن يشرح لكتابه ترجمان الأشواق.

   أحوال السياسية

تبدأ الرواية بمناجاة فردية من ابن عربي في بطن أمه من قبل ولادته.وكانت مرسية في ذلك العصر تحت دولة الموحدين.وقاموا بالعقائد الإسلامية اعتناءعظيما.فالناس كلهم كانوا تحت إطار الإسلامي.والأندلس كانت سامية سامقة من بين العالم بعلومها الدينية وحياتها الاجتماعية. حتى صارت مركزا للعلوم العالمية.اعتنى زعماء الموحدين بالعلماء والفقهاء والمحدثين اعتناء كثيرا.ولذا كانت العلماء لعبوا دورا بارزا في سياسة ذلك العصر.وهذه الأحوال والاعتناء نستطيع أن نرى من أول الرواية إلى آخرها.

وقد بنى الأمراء عدة من المساجد والمدارس والشوارع.وأيضا كان من شأن الناس أن يبني الغني منهم مدرسة ويقف.إن النجاح من الكاتب حسن علوان أنه فسرها كلها في روايته كما نراها بأعيننا.أنه تقدم أمامنا ما فات من أيادنا.وكان الأمراء يأتون العلماء لحل المشاكل والمسائل.هذا ما يوضح لنا من كتب التاريخ أيضا.وفي الرواية،نشأ ابن عربي بنظر أبيه الذي كان له علاقة مع الخلفاء.

وبهذه المعنى،إن الرواية تهدي إلينا حلا للمشكلات التي حلت للمسلمين في العصر الراهن.إنهم يركضون وراء المال والزاد.لا رأي لهم بحياتهم البرزخية.ومن رغم أن الأمراء والولاة المعاصرون،لا يعونون بالعلماء والحكم الإسلام في دولهم،لذا يصيرون ضحايا لمعتديهم.

وعلاوة من هذا،أن الموحدين قاموا بعديد من المضاربات والمقاتلات ضد قوات القادحة التي قامت ضد  وجود الموحدين.والناس تحتهم لم يمكن لهم أن يعيشوا بالهدوء والسكينة.كانوا يخافون الحرب في أي من الوقت.وعائلة الشيخ الأكبر انطلق من مرسية لسبب سياسة الموحدية هذه.التهديات الفرنجية للدولة العربية كانت شديدا في هذه العصر.

          والرواية تفيد صورة بارزة للأحوال الاجتماعية في عصر ابن عربي.ومن الجدير أن الأمراء والقضاة منعوا للبيع وأمروا بأن يحرق الذي ضد الاعتقاد الإسلامي.كتب ابن رشد، والدين عربي قد منع لشكايا بعض الناس من أنه يظهر فيه ضد الاعتقاد الاسلامي.وابن أجاب علي هذا القوم أنهم يخوضون فيما لا يعلمون.

تصوير التصوف

الصوفي هو من صفا قلبه من الرذائل والفواحش.وابن عربي في الرواية بدأ رحلته من نصيحة الشيخة فاطمة "طهر قلبك".ووصف علوان شيوخ طريقته بالأوتاد.والوتد هو ما يثبت شيئا في المكان.والوتد الصوفي يثبت القلب بتعلق بالله. والصوفي إما أن يعيش عيشة عامة من بين الناس أو كان يعيش معتزلا بعبادة الله وذكره. وقول الشاعر:

                                    ولكل واحدهم طريق من طرق

                                     يختاره فيكون من ذا واصلا

وكان ابن عربي يعيش بين الناس ويدرس تلاميذه في المسجد ويكتب ويصنف.والرواية ترسم أن حياته الصوفية هي رحلاته.إنما يستلزم السفر لكي بستجلب العبر.الرحلة هي التي تكون الإنسان.ويكون متفائلا متوكلا بالله إن كان على هدف منشود.ويتعارف الراحل السواد الأعظم من الثقافات المختلفة والحضارات المتنوعة.

ومن جانب أخرى ،يعقوب بن إسحاق،الذي كان أمير الناس،اختفى يوما من القصر.ثم التقاه ابن عربي في أواخر سفره من بيت في صحراء.وسأله ابن عربي:"ألم تجد الله وأنت معنا؟"فأجاب:"الله في كل مكان.ولكنكم تحجبونه عني." إن أولى درجات الورع ترك المحرمات.وثانيها ترك الشبهة.وثالثها  ترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس.ورابعتها اجتناب كل ما ليس خاصا لله.فهذه الأخيرة أهلها الصديقون,لا يتحركون ولا يسكنون ولا يتكلمون ولا يسكنون إلا لله تعالى.فإن الأولياء على طريقين.أولهما طريق الأنبياء،وأصحابهم يخشى لله ويعبده ويعيش بين الناس كما هو منهم.وطريق الأولياء،فأصحابهم ينعزلون من بين الناس ويعبدون الله بوحيدهم.فابن عربي عاش عيشة راضية مع عائلته بين الناس واعتبر ما هو له واعترض ما هو عليه.لأنه يفعل ما فعله بكشف الله أو في حالته المجذوبة.

إن حسن علوان صور الحيات الصوفية لابن عربي منذ طفولته على شكل يتذاهل به خيالات الآخر،إنه يأتي بابن عربي بأنه كان كثير الحب إلى أبويه.ولكن الكاتب لم يأت وفاتهما  بعاطفتها.أي أنه يرسم رفض طلبة الزواج من نظام وفراقها على شكل يذهل به القلوب ويتدفق به قلب من تجرد بالفراق.بل يصور وفاة والديه بأن أباه مات حين هو في المسجد وأخبره خادمه بدر هذا ورجع إلى بيته وقام بدفنه وأقام توابعها.وتصوير موت الأم ليس متفرقا من هذا.ولو سلم أن الحب لنظام كان حبا بالله والحب لأبويه كان قبل هذه الجذبة،إنه يرسم بابن عربي في أوائل روايته أنه كان مجذوبا بالله منذ زمن دراسته وأنه تكلم لأبيه أنه مجذوب بالله.وكيف لا يكون فراق أبويه غير مألم له.ورأيي إن علوان إن صور حب ابن عربي لله في حقيقة حياته حبا لفتاة رآه .وإن كان هو يبدي الحقيقة في وقت آخر في الرواية،إنها لا يكون ظاهرا عن عامة الناس.

عقائده حول الرواية

                        والملحوظ،إن حسن علوان إن نجح في عمله لأن يعبر على أقوال ابن عربي واعتقاداته عبر هذه الرواية.مكالماته مع الأمراء والوزراء،ومخاصماته مع العلماء العباقر مشتملة فيها من غير عثرة بطلاقة الرواية.والمصطلحات المشهورة لابن عربي من نحو وحدة الوجود ، وموقفه للحلول والاتحاد معبرة فيها كما في الكتب النصوص.بل معتبرا أنه رواية لا يكون محتويا على جميع أطرافها. منها أنه عشق نظام فتاة في مكة، بل كان حبه لله فيها.ومن أجدر الحصة ،أن ابن عربي كان يدرس الطلاب في المسجد.وقام شخص في الحلقة وشتم عليه وادعى أنه يقول بالاتحاد بين الخالق والمخلوق. حتى أدي هذا الى أن سجن ابن عربي أياما وبعده أحضره الى مجلس القاضي فسأل..

 -"أحقا قولك إن الله متحد مع مخلوقاته؟"

- "لا يقول بالاتحاد إلا أهل الإلحاد"

 -"وقولك إن الله يحل حلولا  في خلقه"

“ - من قال بالحلول ففهمه معلول"

   “لدي صحائف فيها تهم موجهة إليك بأقوال باطلة متزندقة"-

-" أقول اصرف خاطرك عن ظاهرها ،وانظر في باطنها يتبين لك ما هي"

 فالجواب من القاضي هو "ما لنا إلا الظاهر". ومن الخالق بالذكر،أن اقوال العلماء هي أن الصوفية كانوا ضد الحلول والاتحاد  لدى الفلاسفة.فأن مرادهم من الاتحاد ليس إلا شهود الوجود الحق الواحد المطلق.لا من حيث أن المخلوق وجودا خاصا اتحد به، فإنه محال.وقال العلامة جلال الدين السيوطي : فإن الاتحاد عندهم هو المبالغة في التوحيد.والمراد به هو فناء العبد في مراد الحق تعالي. ويحرم على كل عاقل أن يسيئ الظن بأحد من الأولياء الله تعالى عزوجل.ويجب عليه أن يؤول أقوالهم وأفعالهم ما دام لم يلحق درجتهم ولا يعجز.

               والإسلام المعاصر يواجه مضاربات ومجادلات من الفئات المتنوعة داخل الاسلام.ومنها اعتقادات الشيعية وأهل السنة. الشيعية يدعون أن علي رضي الله عنه هو المستحق الحقيقة للخلافة الإسلامية بعد النبي صل الله عليه وسلم.وعلوان يجيب لهم بابن عربي في الرواية.وذلك لما جاء القاضي ابن الزكي  الى درسه واستفسر منه عن هذه المجادلة.فأجاب الشيخ الأكبر :" اعلم أيها الملك المعظم أن إرادة الله فوق كل إرادة وعلمه فوق كل علم.فلما علم الله بسابق علمه أن أبا بكر سيموت قبل عمر، وعمر سيموت قبل عثمان،وعثمان سيموت قبل علي ،جعل الله خلافة الجماعة كما وقع".هذه نظر ثاقب عبقرية جدا وجواب مفهوم لكل من له ادنى درة من العقل،وإن كان من جانب التصوف.فإن ابن عربي،عنده أجوبة  لطيفة لأسئلة معقدة وإن كان لديه مصطلحات معقدة.هذا ما يوضح من هذه الواقعة.فإن حسن علوان يقدم هذا أمام السياسية المفضعة في قاعة العرب.

         وهذه الرواية تتضمن بعض الواقعات التي يحتاج فيها الخضوع الى حياة ابن عربي.انما تعبر فيها أنه كان يشرب الخمر في حاله المجذوب.وكان يرقص مع زملائه.وكان يشربه قائلا بأن الإيمان متصل والمعصية منقطعة.بل هذا القول والواقعة يحتاج أن نمعن أنظارنا في ذلك القضية.والصوفية في كل زمان واجه خصومات من الفقهاء والعلماء.الفلاسفة هم أصحاب الفكر والاستدلال ، والفقهاء أصحاب اتباع وانتقال ،والمتصوفة أصحاب ذوق وأحوال.أيا كان ، هذه الواقعات التي وردت في الرواية إما أن يكون مدسوسة عليه أو موقع للتأويل.

 وهذه الرواية "موت صغير" ليس بأول رواية مكتوبة عن حيات شخص إحتلى بحلي التصوف. لكن  لها اهتمام بالغ في العصر الراهن ، لأن الشخص ابن عربي صار موضوعا من بين الأكاديمية والفلاسفة المعاصرة.والرواية لغتها وشكلها مذهلة ببلاغتها .ينصرم أحوال ابن عربي كلها في الرواية مواجها بمشكلة أو قضية جديدة يحتاج إلى حل له . وهذا ما يرغب القارئ في تواصل قرائتها.

 

بشر بن إسماعيل

إرسال تعليق

أحدث أقدم