عودة إلى مهد الصبا

 

بعد أن قاربت الشمس المغيب، غادرنا “أم درمان” متجهين غربا إلى “كردفان” على متن شاحنة “لوري”.تحركنا من “سوق ليبيا” الشهير غربي المدينة السودانية العريقة، وتحديدا من الجزء المعروف بسوق “أبوزيد”.

كنت في غاية الحماس؛ فقد ابتعدت عن دياري ومهد صباي منذ وقت طويل. لكن صورتها لم تفارق ذهني، محتفظا بكل ذكريات الطفولة وبواكير الصبا. فهل أجد مدينتي بنفس الجمال؟! أم تبدلت الأحوال يا ترى؟.

عند بوابة الخروج من “أم درمان” لوحت بيدي مودعا المدينة، ومستقبلا “كردفان” الأم.وبينما نحن في الطرق الرملية والتلال الصغيرة التي تكسوها الحشائش الصغيرة، كانت مناظرها عند المغيب تثير الدهشة وتنعش الوجدان وتبعث روح الانتماء. هنا تستشعر سحر الطبيعة الخلاب وهواءها النقي والهدوء التام إلا حفيف الأشجار وزقزقة الطيور وهدير المرعي.

توقفنا في منطقة ما، في قلب الطريق لنتناول العشاء، ثم واصلنا الرحلة. وحان وقت النوم، لنتوقف في محطة أخرى قريبة الأولى، لا يوجد فيها سوى الشاحنات.وتنفس الفجر فغادرناها ونحن لا نزال بين التلال والرمال الكثيفة وكيف لا وقد سميت بعروس الرمال! وقد أيقنت أنها عروس الرمال حقا.

فجأة ودون سابق إنذار توقف محرك السيارة وترجل مساعد السائق ليتحرى ما أصابها من عطل، وبيده “جالون” مليء بالماء يستخدم لتبريد الماكينة ولسوء حظنا أن العطل لم يكن بسبب ارتفاع حرارة الماكينة، ولكن شيئا ما تعطل.وهنا ازداد شوق المشتاق للديار، أكثر من ذي قبل، وقد يستغرق إصلاح العطل وقتا أطول، وأنا أحترق لرؤية مراتع الصبا التي ترعرعت فيها وهدهدتني منذ صغري ونعومة أظافري.

انتظرنا قليلا حتى وصلت سيارة أخرى، وتوقف أصحابها لمساعدتنا، لكن دون جدوى، ولم يبق من حل أمامنا سوى الاتصال بصناعي في مدينة “أم درمان” واستقدامه لإصلاح العطل.

كانت معي كاميرا لا تفارقني. وريثما يتم إصلاح العطل، أخذت في التقاط الصور، واصطياد أجمل المناظر والتأمل في الطبيعة لعلها تخفف شيئا من الوجد والشوق.وصلت سيارة أخرى، فقررنا أن ننتقل مع أصحابها إلى قرية صغيرة تقع على بعد 100 كيلو متر تقريبا.مودعين سيارتنا المتعطلة!! وصلنا إليها وجنحنا إلى المقيل.وقضينا بها بقية يومنا، وحل المساء وآذنت الشمس بالرحيل وكان أهل المنطقة في قمة الجود، مبدعون في إكرام الضيف واستقباله ببشاشة ورحابة صدر.

عند الفجر سمعت تلك الأصوات المميزة المعتادة في الريف مثل صياح الديك وصوت الأغنام والطيور ونهيق الحمير، وأصوات الإبل.بعد تناول الشاي وملحقاته، ذهبت في جولة استطلاعية في جوانب القرية المشرقة ومعالمها وتسلقت جبلا يقع بالقرب منها ووصلت قمته.وكنت في قمة الدهشة أيضا حين رأيت القرية بكاملها أمام عيني وقد كان منظرا لا يوصف وأخذت التقط صورا لذلك الجمال المتناهي.ثم اتجهت إلى سوق القرية وتعرفت على مرافقه ورواده.

بعد يومين كاملين تم إصلاح العطل لنستأنف رحلتنا مساء اليوم الثالث يدفعني شوق إلى مقصودي ويجذبني الحنين إلى منطقة لم أشعر فيها بالغربة أبدا.

ظهرت ملامح الديار ولوحت لنا وكأنها ترحب بنا.أحسست بسعادة لا توصف وسرحت بعيدا أتذكر كل أحداث ومناظر الطريق بين “أم درمان” وأم الكل: حمرة الشيخ، جوهرة السهل والصحراء.

 نور الدين التجاني

طالب صيدلة في كلية زمزم بالخرطوم

1 تعليقات

أحدث أقدم