الشعر العربي في كيرالا بين الماضي والحاضر


 لعل أول ما بدأوا به الشعر العربي في كيرالا الأحكام الدينية والأمور اللازمة حِفظُها عن ظهر القلب كما  كان شأنه عند اليونان والعرب. نظم العرب المقطعات الشعرية ثم القصائد الطوال حسب الحاجة والرغبة.  ولم يكن هناك فرق بين النظم والشعر غير أن الكلام الموزون المقفي كلها كان من الشعر أو النظم، ولكن  عندما تطور الأدب وتنوعت فروعها تباين النظم عن الشعر. فالشعر عندنا اليوم مافيه عاطفة وخيال لكلهما  قيمة كبيرة في المقومات الشعرية أكثر من الألفاظ  والمعاني.

والشعر العربي بعد أن كان يلتزم في البداية بأمور دينية أو قومية دخل في جميع الميادين التي لها دخل في  الحياة الفردية والجماعية، كما أن الأدب في البداية كان يهتم بالرجال الكبار، وجميع أنواع الأدب من الرسائل  أو القصص أو الروايات أو المسرحيات أو الاشعار، كانت شخصياتها الملوك والسلاطين و الأمراء.  والأدباء كانوا يهتمون في مدحهم وتمجيدهم وبيان حالاتهم الشخصية حتى نرى أمير الشعراء أحمد شوقي  كان يهتم في بداية قرض شعره بتناول المناسبات التي تتعلق بالقصر الخديوي. ثم لما تفكر عن الأمة البشرية  والعوام بعد أن رجع من المنفى شرع يكتب الشعر الإنساني بدلا من المناسبات التي تتعلق بالقصر، حتى  لقب بشاعر الشعب. وإذا ناقشنا الشعر العربي في كيرالا نرى أن هذا الاهتمام القديم والحديث متعلق بالشعر العربي التي تولد في كيرالا. وبالنسبة إلى أوائل الشعر العربي في كيرالا لم يبق منها في الوجود إلا قليلا، لعدم عنايتها وقيدها، حتى  الشاعر بنفسه ما كان يحفظ منتوجاته الفكرية في طريقة يحافظها من الضياع.

 كانت بداية دراسة اللغة  العربية في كيرالا من أول يوم دخول الإسلام في كيرالا وأقيم أول مسجد جامع كمركز ديني في  كودونكلور حينما دخل فيها مالك بن دينار وأصحابه لنشر الإسلام امتثالا لعناية الملك تشيرمان فرمال الذي  اعتنق الإسلام ذاهبا إلى مهبط الوحي الإسلامي كما يعترف به جميع المؤرخين وإنما الخلاف بينهم في  تعيين عصره، هل كان في عصر النبي أو بعد القرنين كما يؤكدها المخدوم متوثقا على ظنه لا على يقينه.  وحينما نزلوا في كيرالا، وجدوا فيها قوما يعترفون بالأخوة والمودة  بدون أي معاندة أو عداوة رغم أنهم كانوا قوما غير موافقين لعقيدتهم وعاداتهم. 

 وها نقدر أن نقسم شعراء كيرالا العربية إلى ثلاثة أجيال اعترافا بعصرهم المختلفة وباعتنائهم بموضوع الشعر.فأول شاعر يعرف في كيرالا هو القاضي أبوبكر بن رمضان الشالياتي المتوفي سنة 1480م.فعلينا أن نفكر في هذه المناسبة أين ما قيد العلماء في كيرالا من بنات فكرهم في اللغة العربية لمدة ثمانية قرون أو  ستة قرون، رغم أن اللغة العربية متعاكسة بالشعر حتى قبل البعثة المحمدية.وكيف لم يتولد الشعر حتى ذلك الوقت، في هذه  المنطقة التي دخل فيها اللغة العربية في أوائل القرون الهجرية.فيبقى أمامنا من النتائج الفكرية لهذا الشاعر  المعروف بأنه أول شاعر عربي في كيرالا. 

ولد شالياتي سنة 1429م في شاليات التي وصفها الرحالة ابن بطوطة بأنها مدينة حسان المدن الساحلية في كيرالا، تصنع فيها الثياب المنسوبة إليها، بعد التعلم الابتدائي من أبيه القاضي رمضان بن موسى سافر إلى الحجاز فقرأ على العلامة جلال الدين المحلي المتوفي  سنة 1459م ،ثم رجع إلى بلده  وصار مدرسا في الجامع الكبير في  كاليكوت. اجتمع إليه الطلاب من أنحاء المنطقة حيث كانت له طريقة تعليمية  مقررة تسمى بالسلسلة الفخرية، فكان منهم المخدوم زين الدين المعبري من فنان.

تخميساته

 يعرف له من الشعر  تخميستان رائعتان أولهما لقصيدة البردة للإمام البوصيري رحمه الله في مدح النبي (ص) وثانيهما لقصيدة  بانت سعاد للشاعر المشهور كعب بن زهير، التي أنشدها في حضرة النبي (ص) يمدحه ويظهر أمامه  الإسلام وطالبا منه الاعتذار في هجوه الإسلام والنبي,حيث كان النبي قد أهدر دمه لكثرة شره، حتى بعد أن أطلقه النبي حرا بعد أن كان أسيرا في فتح مكة. 

فإن المخمسة من أشق أنواع الشعر تقريضا حيث يتطلب الشاعر أن  يسير مع الشاعر الأول في بحره وقافيته وأسلوبه ومعانيه وعاطفته بدون أي فرق. ولانرى أي فرق بين  الشعر الذي أضاف إليه الشاعر من ثلاثة مصاريع أخرى للتخميس، في عاطفته النفسية. يقول في وصف   العشق:    

   العشق نار ونار العشق يضطرم

 لا الدمع يطفي ولو كالغيث ينسجم                            

 يا مـن له طبع سلـيم ما بـه سقـم   

 أيحـسب الصب أن الحـب مـنكـتـم.                                           

ما بـين مـنسجم مـنه ومـضطرم

 يقول في تخميسته لبانت سعاد التي سماها راحة الفؤاد يصف الحبيبة الضاعنة سعاد التي يصفها كعب في  حضرة النبي:  

 كيف السبيل إلى نيل الوثوق بها  

 في كل آن لها شأن بصاحبها                            

الله أكـبــــــر حـرنا فـي تـقلـبـها   

فـما تدوم عـلى حال تدوم بها  

كــما تلوّن في أثوابـها الغول 

  تلمذ منه الشيخ زين الدين بن علي المعبري المتوفي  سنة 1522م  الذي صنف كتبا كثيرة وقصائد رائعة تُعرف في تمسكه بالثقافة الدينية وتحفظه بالحماية الوطنية، فكتب هداية الأذكياء إلى طريقة الأولياء التي نبعت من  العاطفة الدينية، وتحريض أهل الإيمان على جهاد عبدة الصلبان التي تولدت من العاطفة الوطنية. ومن الجدير بالذكر أنه لانرى في كيرالا ولا في الهند آثارا شعرية قبل هذه القصيدة التي كتبت في كفاح الاستعمار  الأجنبي الغربي، في حين كان الوفد التجاري تحت القائد البرتغالي فاسكودي جاما  يؤذون المسلمين إيذاء شديدا وينتهبون أسواق المسلمين الأهالي والأجانب في كاليكوت ويختطفون بضائعهم التجارية،فعانى  التجار العرب والأهالي من ظلمهم وإيذائهم ،فحرض الشاعر المسلمين  بأبيات رائعة على الجهاد ضدهم، لكي تكون الأسواق أمنة مطمئنة، في قصيدة طويلة تحتوي على  173 بيت. 

  وكان المخدوم شاهدا بمعاينته إيذاءهم المسلمين،  حيث كان طالبا في كاليكوت في عصر قدوم البرتغاليين تجارا ونزلوا في كاباد سنة 1498م . وقال في فضيلة الجهاد:                    

       رِباط بــيوم  فـي سـبـيـل إلـهــنـا  

لأفـضل مـن دنـيا ومال بجملة                             

وعينان لا تغشاهما النار من لظى 

 فعين بكت من خشية الله عَزّتِ                          

 عين تبيت اللـيل تحـرس لـلعـدى   

 رجاء ثواب الله من خير يقظة 

وقصيدته هداية الأذكياء إلى طريقة الأولياء من روائع الشعر العربي في بيان التقوى ووصفها بقوائمها  الثلاثة الشريعة والطريقة والحقيقة، وقال في أروع الأسلوب الشعري  :

   تقوى الإلـه مـدار كل سعـادة   

 وتباع أهوى رأس شر حبائلا                   

 إن الطـريق شـريعة وطـريقة   

  وحـقيقـة فـاسمـع لـها ما مثلا                         

  فـشـريعـة كسفــينة، وطـريـقـة   

 كالـبحر، ثـم حقيقـة در غـلا

من رام درا في السفينة يركب  

  ويغوص بحرا ثم درا حصلا 

 ثم جاء الشاعر الكبير القاضي محمد بن عبد العزيز الكاليكوتي المتوفي سنة1612، وله منظومات عديدة وأشعار بديعة في العربية واللغة المحلية، رغم أنه كتب اللغة المحلية بالحروف العربية المليبارية التي كان  مسلمو مليبار يستخدمونها في مدارسهم الدينية. ومن آثاره مقاصد النكاح، والفتح المبين. الأول لمعرفة  العلوم الدينية والثاني في مدح الملك السامري في كاليكوت الذي كان من دأبه احترام العلماء المسلمين والقيام بأمور المسلمين الشعبية والدينية. وكان قواد جيشه البحري أبطال من أسرة مركار المسلمة في كاباد، حيث لم  يكن للبرتغالليين انتصار في الحروب حتى قتل كنج عالي مركار القائد الرابع لهذا الجيش البحري حين  ائتمر عليه البرتغاليون، واغتالوا وقتلوا هذا الزعيم الشجاع شر قتلة. وللقاضي محمد نحو خمسين مؤلفة وخمس عشرة قصيدة في الموضوعات المتنوعة. منها قصيدة إليكم أيها الإنسان في التصوف، والفتح  المبين في مدح الملك السامري، ومقاصد النكاح، والفرائض الملتقط ، والمراثي. ومن أحسنها قيمة في التاريخ  ما كتبه في وصف الحرب التي دارت بين الملك السامري والقوة الاستعمارية البرتغالية في كاليكوت حيث  اصطف المسلمون والهنود تحت لواء الملك الأهالي السامري وانتصر فيها الملك وأهربت تلك الحرب  الشديدة البرتغاليين .

  قال في وصف الملك :                         

 وهو محــــب ديننا الإســـلام     

 والـمـسلمـين بيـن ذي الآنـــام 

  والمسلمـــــــون كلـهم رعيته     

 وإن يكـن في أي أرض بلدته                       

 ولا يقوم في يمـــــــينـه  أحد    

 في العـــيد إلا مسلـم إلى الأبد

 ومعهـم المـخدوم ذو الإتـقان    

 عبـد العزيز المعـبري الفناني                        

 وهكذا قاضي قضاة المسلمين   

 عبد العزيز الكالكوتي كالمعين                        

 ومـنهــــــــم مـقدم الشجـعـان    

 كنجو علي المشهور في البلدان 

نرى الجيل الثاني من شعراء كيرالا، فمن أوائل الشعراء في هذا الجيل شيخ محمد الجفري المتوفي سنة 1808م ،نزيل مليبار من حضر موت سنة 1746م، وقصائده مربوطة بثقافته الدينية وبمعاندة ما رآه من الحركة الفاسدة التي دخلت في المنطقة باسم الطريقة حين رأى طريقة السيد محمد شاه الذي نزل من إيران  واستوطن في كندوتي، وكان له أتباع في جوار هذه المنطقة. كان شيخ محمد الجفري يرى في أتباعه من يبتعد من الفرائض الدينية. فكان يراسل إليهم بشعره ينصحهم وقال في رسالة : 

 تـراهـم حـيثمـا يمشون في ظلم 

 مـخـبـطـين كعـشـوى أيـنمـا ســــاروا            

 هم الخفاشيش في سر وفي علن  

 فأينما هم من ضياء الشمس مذ حاروا  

         مـعطـلين لـما جـاء الرسـول به   

 فـهم زنـادقـة أيـضـا وفــجـــــــــــــار

    ثم جاء القاضي عمر البلنكوتي المتوفي سنة 1852 م، الذي كانت له علاقة وثيقة باالعلماء في الهند وفي الخارج سافر للحج وتعلق بالعلماء الذين كانوا هناك مباشرا. كان عالما تقيا لا يخاف في الله لومة لائم. وقد قام في مقدم صف المحاربين ضد احتلال الحكومة البريطانية في الهند. وحين اجترأ على رفض الضريبة للأراضي المملوكة لديه حبسته الحكومة وأحضر في المحكمة ورفض أن يطلب  المعذرة ولم يستلم الجريمة أمام الحاكم الجائر، فحبسته الحكومة ولكن لما أغارت هذه الواقعة الأمة المسلمة وأعلنوا الاعتداء على الحكومة أطلقته الحكومة من السجن، فهو أول من رفض  الاستسلام للحكومة البريطانة بالعمل، وكان السيد علوي بن محمد مولى الدويلة المعروف في مليبار بالسيد 

المنفرمي يساعده في هذه الحركة ضد الحكومة الأجنبية. وكانت هذه الواقعة قبل الحركة الأولى الاستقلالية  التي جرت بعد خمس سنوات لوفاته. 

له قصيدة في مدح النبي جميع حروفها مهملة وسماها "لاح الهلال"  وقصيدة ثانية جميع حروفها معجمة. وهذا من العمل الأدبي العجيب الذي يبين أمامنا إنه شاعر كبير ولغوي   قدير.وله مرثيتان، مرثية على القاضي محي الدين بن علي الكاليكوتي المتوفي سنة 1226ه‍، ومرثية على السيد علوي بن محمد المنفرمي المتوفي سنة 1845م . ومن أبياته الجميلة، مقاصد النكاح، ونفائس الدرر في المدائح النبوية وفي بيان الأسرار الإلهية، وهي بيان قول كلمتي الشهادة " لا إله إلا الله، محمد رسول  الله". ومن القصائد المشهورة له قصيدته التي أنشدها أمام الروضة المباركة في المدينة المنورة. وهي  مخمسة رائعة يقول فيها مظهرا حبه للرسول صلى الله عليه وسلم :                   

 يـا أكـرم الـكـرمـا  عـلى أعتابكم

 عمر الفقير المرتجي لجنابكم                       

 يرجو العطاء علي البكاء ببابكم  

 والدمع في خديه سال سجيما          

 صلوا عليه وسلموا تسليما                    

 ما جف دمع سال من عـــــينين  

    لـكـنه يـجــري علي الخـدين                       

   من حب قلبي سيـد الـــــكـونين   

  حـيا وميتا في التراب رميما    

    صلوا عليه وسلموا تسليما

وللقاضي محي الدين ابن علي الكاليكوتي المولود سنة 1787م، في أسرة القضاة بكاليكوت، الذي كان يساعد السيد الجفري ككاتب، أشعار قيمة منها مرثيته على  السيد شيخ محمد الجفري ، وقصيدة طويلة سماها " قصيدة البشارة العميمة في قصة النصرة العظيمة"وهي في وصف حرب جرت بين محمود الثاني(1839 -1784م)  والجيش الاحتلال الروسي حتى انتصر فيها الجانب الإسلامي، فأرسل هذه القصيدة تحية وتهنئة للملك المظفر يصفه بأحسن الأوصاف وقال :                               

منور محراب الشريعة رافعا   

 منائرها علما وحكما بطاعة                     

حسيب نسيب محسن مـتكرم 

   كريم جواد ماجد ذو الكرامة           

  تقـي نقـي خائـف لإلــــــــهه  

  زكــــــي ذكي باذل لنصيحة 

يصف أعداء هذا الملك المظفر قائلا :               

هم زمرة الـ"موسكو" القباح تعاقدوا

 مخالفة المنصور من ذي الجلالة

ومن الشعراء القديرين في هذا الجيل القاضي أبو بكر بن محي الدين من أسرة قضاة كاليكوت المتوفي سنة 1883م .له تأليفات عديدة منها مصابيح الكواكب الدرية ، وله ٢٠ قصائد  قرضها في المناسبات المختلفة رغم أن كلها مخطوطة محفوظة عن الضياع برعاية كاملة،ومن قصائده الرائعة الهمزية النبوية، والتشوق  إلى زيارة الروضة المشرفة، وبعض المراثي الرائعة. وقصيدته الهمزية النبوية من أحسن البدائع الشعرية  وأبياته قرضها  كما جاء من الشاعر الكبير أبو العلاء المعري بلزوم مالا يلزم، حيث يبدأ كل سطر من المربعات على ترتيب الحروف الأبجدية والقافية بالهمزة. يقول الشاعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم :                         

باهى به الرسل والأملاك بالطرب   

باهــــى المحيا فمنه كل أبهاء

 به النهار بشمس حار ذا عجـــــب 

       بدر وعرش وكرس كل لمعاء  

    تجلى بمدحته القــــــلوب إذ هدأت  

            تغيرا بصدى جــــرم وشنعاء 

  وللشاعر أبي بكر الكاليكوتي قصيدة رائعة سماها معارج السالك إلى ملك الملوك والممالك، في أحسن أسلوب ، يصف فيها الشاعر أوصاف الطريقة الصوفية والعشق الإلهي لدى الأولياء الكرام قائلا   

وهم يراعون الظلال بالنهار  

وللغروب مثل طير بادكار                         

حتى إذا جن الظلام وقد خلا   

 كل الحبيب بالحبيب شاغ لا               

 نصبوا إلى محبوبهم أقدامهم    

 فرشوا له متوجهين وجوهم.


د/ ويران محي الدين الفاروقي

إرسال تعليق

أحدث أقدم